
الجمعة، 23 أيار/مايو 2025، بينما كانت الطبيبة الفلسطينية آلاء النجار تعالج الأطفال الجرحى، جاءها خبر استشهاد تسعة من أطفالها.
أداوي.. ويجرحُني عالمي
ويُوزِّعني الوقتُ ما بين قطرةِ ماءٍ ولقمة خبز وجرعةِ دمْ
أداوي لأفتح بابَ الحياة لما قد تبقّى لنا من حياةٍ محاصرةٍ ههنا بالعدَمْ،
ومُعذَّبةٍ ههنا بالعدَمْ.
ويسحقُني أملٌ وأنا في الظلام أُبدِّدُ هذا الألمْ.
كلّما تحتَ هذي الشموعِ الصغيرةِ أغلقتُ جرحًا
تأكَّدتُ أكثرَ أن جراحيَ لن تلتئمْ.
… …
في شارع الموت تمشي ويتبعها تسعةٌ.. شهداءْ
لا تموتي حنينًا لنا انتظرينا لنحيا قليلا.
عناقًا أخيرًا ودفئًا أخيرًا
عصافير لم تكْتِسِ الريشَ بعدُ.. مدى ونخيلا.
ههنا انتظرينا مكانًا أليفًا كقلبك نسكنُهُ أجمعينا.
لا تموتي..
كثيرٌ من الموتِ حولَكِ نعرف لم يبقَ للرُّوح فيكِ وفينا
سوى بعض هذا الرّماد الطريّ كأسمائنا
والحنين العظيم لأحلامنا
أنْ يصيرَ الصغيرُ كبيرًا ويرجِعَ هذا الكبيرُ جَنيْنا.
اذكرينا.. نموت طيورًا ونحيا طيورًا
فلا تركضي خلف شبه الرّغيف لكي تُطعمينا.
استريحي قليلا وإن شئتِ فابكِ علينا قليلًا
وإن قَتَلوا البحرَ نلقاكِ في ما تبقى من البرِّ حلمًا ولوزًا.. ونورًا وتينا.
… …
أَسِرَّتُنا سبقتْنا إلى اللهِ/ ألعابُنا سبقتْنا إلى اللهِ
أحلامُنا سبقتْنا إلى اللهِ/ أسماؤنا سبقتْنا إلى اللهِ
أشلاؤُنا سبقتْنا إلى اللهِ/ جيرانُنا سبقونا إلى اللهِ
شارعُنا، حيُّنا، غرفةُ الصفِّ، أستاذُنا.
ولكننا لم نزل ههنا حوْل قلبِكِ شكًّا بمعنى الحياةِ.. وحينًا يقينا
افتحي صدركِ الآن، نعرفُ، صعبٌ عليكِ كثيرًا بأن تحضنينا
فقد صار أصغرُنا غيمةً
صار أوسطُنا جمرةً والكبيرُ عجينا
… …
لماذا ولِدتُ؟ لماذا ألِدْ؟
لأودِّع أرواحهم كالطيورِ ممزَّقَةً في المدى تبتعدْ؟
أيها الفجرُ حدّق إلينا انتشلنا بمعجزة أو بحكمة شمسكَ خارج هذي الإبادةْ
لقد اجتمعوا كلُّهم كالذئابِ على قلب أُمٍّ..
جنودٌ طغاةٌ وحوشٌ وقادَةْ
وخلْفَهُمُ في الظلام بغاةٌ يعيشونَ بالقتل سادةْ
وهم يحرقون الصغيرَ الكبيرَ ويختلفونَ: أَنِصْفُ الإبادة هذا؟
أَرُبْعُ الإبادةِ هذا؟/ أَتِسْعَةُ أعشارها؟
وغدا القتل مثلَ التسوُّقِ والصيدِ، مثلَ التزلّج والغولفِ، عادةْ!
… …
تسعةٌ أيها الموت هذا كثيرٌ كثيرٌ عليّ
كثيرٌ على ما تبقّى لنا من بيوتٍ ركامٍ، بيوتٍ خيامٍ، بهذا البلدْ
لا أريدُ لآخرهم مِيْتَةً مثل إخوتهِ
لا أريدُ عذابًا لأيّ أحدْ
تسعةٌ أيها الموت هذا كثيرٌ، كثيرٌ عليّ
كثيرٌ على روح قلبي/ كثير على قلبِ شعبي
كثيرٌ على الأرض تحتي.. على فكْرةٍ تتجسّدُ جرحًا
كثير على حفنةٍ من رمادٍ
أهذا الرّماد بقايا ابنةٍ أم بقايا ولدْ؟
كثير على غيمةٍ نزفتْ دمعَها
وكثير على رحمة تتناثر مذبوحة في مرايا الزّبد.
كثير على كتبِ الأنبياءِ
كثيرٌ على الصلواتِ، على صمت هذا الصباحِ الأخيرِ
على كلِّ من يطرقونَ هنا منذ عامين بابَ الفَناءِ وباب البَقاء.. وما مِن صدى
وكثير على وطن طيب يشتهي حلمًا لا حواجزَ فيهِ هنا، يشتهي طائرًا في المدى
وكثيرٌ على النَّخلِ والبرتقالِ.. وزيتونةٍ في تلالٍ بعيدةْ
كثيرٌ على قلبِ هذي القصيدةْ
كثيرٌ على وردةٍ ذَبُلَتْ في بلاد الأسى
وكثيرٌ على وردةٍ فتّحتْ في البلاد السّعيدةْ!
وكثيرٌ على حلم يتراكض أطفاله منذ سبعٍ وسبعينَ كي يبلغوا نصفَ عيدٍ وبعضَ الثيابِ الجديدةْ
كثيرٌ على الأب والأم والجدّ والابن والبنت هذا الحفيدِ وتلك الحفيدةْ..
لماذا أرى قاتلي يتناسل دبابة بعد دبابة كالخراب على باب هذي الحياةِ القتيلةْ
وعلى باب تلك السّماء الثقيلةْ.
دمي ملعب مُذْ ولدتُ لهذا الذُّبابِ، ولحمي لهذا الجرادْ.
لماذا أموتُ ويحيا على جثتي قاتلي
وهو يحفر خندقه في طريق حنيني لحريَّتي
ثم يطلق أشباحه ومدافعه صوب برج حمامي؟
كمْ من بحار من الدَّم أعبر كي ألتقي بعناقي لنفسيْ وبعض سلامي؟
وكلُّ الوحوش تحدّق بي وهي تصرخُ فوق ركام بيوتي.. رمادِ خيامي:
مُتْ جيدًا كالبلادِ التي دُمِّرَتْ
مُتْ كهذي الكنائس هذي المساجدِ هذي المدارسِ
هذي الدفاترِ هذي الأغاني وهذا الظلام الذي في الظلامِ
… …
هل كثيرٌ علينا هنا أن نعيشْ؟
هل كثيرٌ علينا هنا أن نموت كما مات أجدُانا ههنا؟
هل كثيرٌ علينا هنا أن نكون لأفراحنا، خارج الموتِ، لو لحظةٍ سَكَنا؟
في الوضوح الذي يفقأُ العينَ ماذا نقولُ وكلّ الذي في الوضوح يُرى؟:
هكذا مزّقوا لحم أطفالنا؟ هكذا أحرقوا، هكذا دمَّروا؟
هكذا ضحكوا؟ هكذا التقطوا صورًا لجرائمهم فرحين بأشلائِنا؟
هكذا وزّعوا دمَ أحيائنا في الجهات.. جميع الجهاتْ؟
هكذا فتشوا كلّ أجساد أحبابنا بالرّصاصِ وهم يبحثون عن البحر فينا
عن الأرض فينا/ عن الشمس فينا..
وأوَّلِ نبض وآخر نبض لهذي للحياةْ؟
… …
لا نريد هنا أيّ موت.. شبِعْنا من الموتِ
نحن الذين هنا وهنالكَ مُتنا جياعا.
لا نريد لقاءً سريعًا ولا صدفةً أو وداعا.
لا نريد سوى أن نكون هنا..
لا نريد قناعا لهذا العذابِ..
نريدُ نهارًا كغزة يضحك طفلًا، وأمَّا، أبًا وشِراعا.
لا بيوتا تئن نوافذُها مثلَ أوجاعِنا
ومقابرَ أكبرَ من برِّنا ظلمةً واتساعا.
لا نريد هنا أيَّ موتٍ نريد الحياةَ هنا كلَّها..
بحرَها غيمَها عشبَها روحَها جسمَها واسمَها
نريد الحياة هنا كلَّها
النخيلَ الهواءَ المدى والسماءَ
ودمعتَها، ربما.. مرَّة مرّتين.. تعثُّرنَا حين نركضُ لكن
نريدُ هدوءًا لنسمع في الفجرِ ضحكتَها
نريد البداية كل البداية لا ظلَّها
ونريد الحياة، نريد الحياة هنا كلها.
سبعٌ وسبعون تكفي لنُولَد لا كي نموتْ
سبع وسبعون تكفي وتكفي مذابحنا من سهول الجليل إلى نخل غزةَ
من بيتِ لحمٍ إلى القدسِ.. من شطِّ حيفا إلى شطِّ بيروتْ
لم يبق للطير أفقٌ ولا للبيوت بيوتْ.
ستونَ ألفَ شهيدٍ ولا شيء غير اختلاف الطغاةِ وشبه الطغاةِ
على الفرق ما بين معنى السلام ومعنى الحروب، ومعنى الجريمة معنى العقاب، ومعنى الهلاك ومعنى النجاة، ومعنى الخيانة معنى الشجاعة، معنى التمرّد والامتثالِ، ومعنى الغناءِ ومعنى النّواح، ومعنى الجناح ومعنى القيودِ، ومعنى الشهيدِ ومعنى نهايةِ عصر الشُّهودِ، ومعنى الكلام ومعنى السكوتِ، السكوتِ، السكوتِ، السكوتِ، السكوتْ
سبع وسبعون تكفي لنولد لا كي نموتْ