
المختار بن محمد نافع
كاتب وباحث
المقدمة:
لا تزال جهود الإصلاح السياسي في البلاد بحاجة إلى مزيد من تسليط الضوء عليها سواء في جمع المادة التاريخية أو استنطاقها وقراءتها، لما عاناه حقل التاريخ من عزوف أهل البلد عن التدوين فيه، ومن سيطرة السرديات المجتزئة والقراءات المنبنية عليها، وهو أمر يصدق أكثر ما يصدق على التاريخ السياسي.
وفي هذه المقالة نقدم مساهمة ينصب اهتمامها على إبراز جهود بعض أمراء بلاد شنقيط خلال القرن 13هــ في الاستجابة لمطلب إقامة دولة في البلاد تقضي على السيبة والفراغ السياسي و توفر الأمن وترعى مصالح الناس.
وننطلق في هذه المساهمة من فرضية تقول إن السعي لإقامة الدولة لم يكن خاصا بالعلماء الذين اشتهروا بالدعوة إلى نصب الإمام، وإنما كان لدى بعض الأمراء نفس الدوافع الدينية و المصلحية التي حفزت هؤلاء العلماء إلى هذا المسعى، مع الإقرار بوجود فروق واضحة بين المشروعين
محددات الموضوع
و يأتي اختيار القرن الثالث عشر الهجري لأنه ظرف تطور ونضج "النظام الأميري" في البلاد –بمصطلح الدكتور ولد السعد، كما هو ظرف بروز دعوات نصب الإمام بالشكل المعروف في تاريخ البلد الذي أصبح يحيل إليه هذا المصطلح تلقائيا.
أما اختيار "بلاد شنقيط" بدل توسيع الحد المكاني للموضوع إلى بقية المناطق الداخلة تحت مسمى "موريتانيا" حاليا (الشطر الموريتاني من فوتا تورو على سبيل المثال) فلاختلاف السيرورة التاريخية لمطلب إقامة الدولة ونصب الإمام في بلاد شنقيط عن بقية المناطق الموريتانية.
و إذا كان مفهوم "نصب الإمام" عرف سابقا بمعنى سعي مجموعة من العلماء إلى إقامة حكم مركزي على أنقاض الإمارات القائمة يستجيب للشروط المطلوبة شرعا في الإمام، فإننا هنا نستخدمه بمعنى أوسع من هذا المعنى بحيث يشمل الجهود التي بذلت من داخل الإمارات لتقويتها وإصلاحها حتى تكون متلائمة مع الشروط الشرعية.
ولا شك أنه سترد ملاحظة حول التجوز الواسع الذي نقع فيه بهذا الاستخدام، ومع صدق هذه الملاحظة في المصطلح الدال إلا أننا نرى أن الأمر لا يختلف كثيرا في المدلول، فحين يثبت أن بعض الأمراء سعى إلى تأسيس دولة بالمعايير الشرعية والسياسية في ذلك العصر من خلال الإصلاح الداخلي فإن الأمر لا يختلف عن سعي بعض العلماء إلى ذلك من خلال إقامة كيان جديد.
أما إذا وقع اعتراض على وجود سعي من طرف هذه الأمراء فذلك محل النقاش في هذه المقالة، وهو نقاش ينطلق من زاويتين، أولاهما تقديم الدلائل التاريخية على وجود هذا المسعى وهذا هو لب المقالة، وثانيها التنبيه على استحضار النسبية في الحكم على هذا الجهد وقراءته في ضوء معطيات واقعه؛ إذ بهذه النظرة النسبية نصل للقراءة الصحيحة لكل مساعي إقامة الدولة ونصب الإمام في تلك الفترة ونميز النيات الإصلاحية فيها عما التبس بها من خلفيات ونوازن بين النجاح الواقعي الضئيل الذي لقيته مساعي الأمراء والشهرة المثالية الكبيرة التي صادفتها دعوات العلماء.
نماذج من الأمراء الساعين إلى نصب الإمام
بخصوص الأمراء الذين سنختارهم للتمثيل على هذه الجهود فسنختار أميرين توفرت فيهما جملة من المعايير جعلتهما مثالين بارزين على الفكرة التي نطرحها، وهذه المعايير هي:
- تطور إمارتيهما في الفترة المدروسة وبلوغها أوج تطور الإمارات في البلد عموما
- طول فترة تولي كل منهما للإمارة
- الدور الكبير للعلماء في إمارة كل منهما
وهذان الأميران هما امحمد ولد محمد شين زعيم إمارة إدوعيش في تكانت والركيبة، خلال الفترة من (1208هـ 1236هـ الموافق 1793- 1820م) ومحمد لحبيب ولد أعمر ولد المختار زعيم إمارة الترارزة في الكبلة خلال الفترة (1244- 1277هــ)
وستقوم منهجية الاستدلال التي نتبعها على إيراد شواهد تاريخية على اهتمام هؤلاء الأمراء بنشر العدل ومحاربة النهب وإقامة بعض الخطط الدينية اللازمة للإمام بمقتضى الأحكام الشرعية حسب ما يمكن في البيئة السياسية والاجتماعية، وعلى إثبات ما تحلوا به من صفات شخصية مثل التدين والتعلم والحلم مما يدل على أن مساعيهم في تحقيق العدل تتجاوز الأهداف البراكماتية التي تهتم بحسن السمعة والمنافسة مع الخصوم السياسيين.
- محمد ولد محمد شين
أ: سمات شخصية
تمدنا المصادر التي كتبت عن الأمير ولد محمد شين ببعض المعلومات الشخصية عنه تساعد على القول باهتمامه بالإصلاح السياسي في إمارته من خلفية شرعية منها أنه كان متعلما متدينا، وقد لخص الباحث الدكتور سيد أحمد ولد أحمد سالم هذه المعلومات –التي سنورد بعضها لاحقا نقلا عن المصادر الأصلية بالقول "كان من أعظم أمراء تكانت دينا وسياسة، كان يقدر العلماء والصالحين ويغدق عليهم العطاء وكان يلازم سيدي عبد الله بن الحاج براهيم ويأخذ عنه ويعمل بفتواه"
كما كان كيسا حازما ذا حس عمراني بدليل إدراكه لأهمية تنمية المال ووقوفه ضد الفكرة الخاطئة التي تعيب اقتناء أهل الشوكة للمال وهذا يدل على حس مدني متطور يسعى صاحبه لتجاوز مرحلة اقتصاد السلب والإتاوات إلى اقتصاد التنمية والتعمير سعيا إلى إيجاد الظروف المعينة على نشأة الدولة يقول باب بن الشيخ سيديا في كتابه "إمارتا إدوعيش ومشظوف" (وكان يحسن القيام على ماله ولا يبذره ويبالغ في ذلك)
ومن القصص التي تدل على تدينه ما رواه باب بن الشيخ سيديا: "وربما أمر جيشا معه بنهب غنم بعض المهاجرين لما رآها سمانا تنفيرا لأمثاله عن الهجرة المذكورة، ثم قضاها له سرا"
ب: جهوده في تقوية إمارة أدوعيش
من المعروف أن إمارة أدوعيش الواقعة في وسط البلاد بدأت في عهد بكار ابن أعمر بن محمد جد المترجم له، الذي توفي سنة 1175، لكنها توطدت بعد أن استطاع ايدوعيش بقيادة محمد شين بن بكار بن أعمر هزيمة المغافرة في احنيكات بغداده سنة (1192هــ 1788م )
وبعد وفاة محمد شين بن بكار (ت 1202، 1788) وقع نزاع بين إخوته وأولاده على خلافته استمر حتى استطاع المترجم له ابتداء من سنة 1208 أن يوحد إدوعيش بعد مقتل الطامحيْن لخلافة والده وهما أخوه بكار ول محمد شين، وعمه سيد أحمد ولد بكار، فعند مقتلهما قاد المترجم له الحلف الذي كان على رأسه أخوه بكار، أما الحلف الذي كان على رأسه عمه سيد أحمد فقد قاده عمه الآخر محمد بن بكار "قبل أن يتخلى {محمد بن بكار} عن نهج قومه الحربي "ويتوب"
وتجمع المصادر على الدور الكبير الذي قام به محمد ولد محمد شين في تطوير إمارة إدوعيش فهذا باب ولد الشيخ سيديا يقول عنه (وآخر أمير يجتمعون عليه حقيقة محمد بن محمد شين وهو من أفضل ِشيوخ العرب وأعدلهم وأعظمهم ملكا وأشدهم صولة)
ويقول ولد السعد (وقد بلغت إمارة إيدوعيش في عهد محمد بن امحمد شين أوج تألقها السياسي واتساع نفوذها المجالي)
وقد دخل ابن امحمد شين في صراعات مع الإمارات والمشيخات المجاورة من أجل حفظ مكانة الإمارة وكانت له صولات إلى داخل عمق بعض هذه الإمارات، ولم يقتصر صراعه مع هذه الإمارات على الجانب العسكري فقد سعى للتدخل في شؤونها الداخلية داعما المعارضات التي تبرز في وجه أمرائها
ب: مساعيه في نصب الإمام
بعد أن استتب الأمر في إمارة إدوعيش لابن امحمد شين عاشت الإمارة استقرارا سياسيا واجتماعيا صنعته شخصية الأمير التي اجتمعت فيها الحكنة الساسية والتعلم والتدين، مما فتح المجال لقيام الإمارة أو تشجيعها لبعض الوظائف الإمامية على حسب ما يمكن في مجتمع بدوي لا يعرف لا عهد له بالانتظام والخضوع للأحكام، يقول المؤرخ سيدي ابن الزين واصفا النقلة التي حدثت في هذا الصدد بعد استتاب الحكم لابن محمد شين: (فلما وقع ذلك استقامت الأرض وانتقل منها من كان على غير الاستقامة وامتلأت عدلا، فقد حكًّم سيدي عبد الله بن الحاج براهيم في أموره حتى صار لا يقطع أمرا إلا بإذنه، ومن أعظم ما قيل ما بلغني أن سيدي المذكور قال له يوما ابسط يدي أبايعك"
ففي تحقيق العدل ومحاربة الظلم تجمع المصادر التي كتبت عنه على أنه كان عادلا فسيدي ولد الزين يقول عنه (ساد محمد بن محمد شين جميع إدوعيش، وانتفى منه من كان يخالفه، فلما وقع ذلك استقامت الأرض وانتقل منها من كان على غير الاستقامة، وامتلأت عدلا" كما وصفه بالعدل كل من ابن الأمين صاحب الوسيط وباب ابن الشيخ سيديا
وفي إقامة وظيفة القضاة والمستشارين من العلماء نجد المصادر تنوه بالمكانة الكبيرة التي حظي بها العلامة سيدي عبد الله بن الحاج براهيم يقول صاحب الوسيط: (صار لا يقطع أمرا دونه {=سيدي عبد الله بن الحاج براهيم} مما يتعلق بالشريعة)
- محمد لحبيب:
أ: سمات شخصية
نلاحظ أن المصادر التي تحدثت عن الأمير محمد لحبيب كررت تقريبا نفس الأوصاف التي ذكرتها المصادر التي تحدثت عن شخصية امحمد ولد محمد شين، فهذا محمد فال ابن باب يقول عنه "كان من أهل الخير يبجل العلماء ويعف عن أموال المسلمين" و ابن باكا يصفه بأنه "اشتهر بالعدل والحلم والحزم والعزم وحسن التدبير وكثرة النفير"
وما يدل على تطابق كثير من جوانب شخصيتيهما أن باب ابن الشيخ سيديا أثناء كلامه عن اهتمام ابن محمد شين بالتنمية والعمارة ذكر الأمر نفسه عن محمد لحبيب فقال: (كان رؤساء المغافرة لا يقتنون المال ويعيبون من فعله... حتى كان زمن محمد الحبيب بن أعمر بن المختار فاقتنى المواشي وأحسن القيام عليها)
أ: جهوده في تقوية إمارة الترارزة
يعد الأمير محمد لحبيب أشهر أمراء الترارزة وأرسخهم إمارة، رغم ما واجهه من تحديات داخلية وخارجية فقد استطاع أن يصل بالإمارة أوجه ازدهارها و قوة دورها في داخل حدودها وفي التنافس مع الإمارات الأخرى وفي مواجهة الأطماع الاستعمارية للفرنسيين المتمركزين في السنغال، وقد تولى الإمارة في الفترة من 1244 هــ إلى 1277 الموافق 1829- 1860 م
تولى الأمير محمد لحبيب الإمارة عقب وفاة والده أعمر ولد المختار ولكنه واجه منازعة من أخيه الأكبر أحمد ولد الليكاط الذي استعان أولا بإمارة لبراكنة ثم إمارة آدرار، كما واجه منازعة أخرى من مجموعة من رجالات الإمارة شكلت حلفا عرف باسم "خندوسه" لجأ قادته إلى إمارة آدرار أيضا.
ولكن محمد لحبيب استطاع التغلب على هذه التحديات الداخلية بقتل أصحابها أو احتوائهم ولو مؤقتا
أما التحديات الخارجية فكان أكبرها الاستعمار الفرنسي الجاثم على مقربة من إمارة الترارزة والساعي لتصفية وجودها في الضفة اليسرى لنهر السنغال بالكلية، وقد خاض محمد لحبيب حربا شرسة مع الفرنسيين تعددت جبهاتها بين الميدان العسكري والحصار الاقتصادي والتنافس على التأثير السياسي على ممالك الضفة اليسرى الصغيرة، وقد استمرت هذه الحرب قرابة 30 سنة وقفت فيها إمارة الترارزة بقيادة محمد لحبيب في وجه تمدد الاحتلال الفرنسي إلى مناطق نفوذها في السنغال.
ب: مساعيه في نصب الإمام
لم تشغل محمد لحبيب الحروب التي خاضها في مختلف الجبهات عن الاهتمام بشؤون إمارته الداخلية، ولاسيما في نشر الأمن ونصب القضاة و توطيد العلاقة بين الإمارة والعلماء، وقد تكررت الإشادة بعدل الأمير محمد لحبيب في النثر والشعر، يقول صاحب الوسيط ( كان..أميرا على الترازة وكان عادلا مهيبا) وورد في قطعة من الشعر الحساني للشاعر ... إشادة بقضاء الأمير على أي وجود لمجموعات النهب في إمارته حيث يقول (ول أعمر ول المختار... اترابو ما فيها هنتات)
وقد نصب الأمير محمد لحبيب العلامة محنض بابه بن اعبيد قاضيا لإمارته، وهو من أشهر دعاة نصب الإمام، وقد كان له دور محوري في حل نزاعات كبيرة وقعت بين سكان الإمارة كما طبق بعض الحدود الشرعية
أما علاقته بالشيخ سيديا الكبير فتظهر الرسائل المتبادلة بينهما فيها تعاونا كبيرا بين الرجلين في إضفاء ما يمكن من الشرعية الدينية على الإمارة وقيامها بالوظائف المنوطة بها من نشر للأمن وبسط للعدل ومحاربة الخطر الاستعماري المحدق بالبلاد
ومن مكانة محمد لحبيب لدى علماء عصره أن لمرابط محمذفال بن متالي كان يجله ويقدره رغم تحفظه على منظومة الإمارة، يقول ابن أخيه حيمدة ولد انجبنان في نظمه لسيرته:
وكان لا يلقى بكالترحيب منهم سوى من كالأمير احبيب
وقد رثاه هو ومحنض بابه في قطعة شعرية واحدة وهو أمر يدل على مكانته الكبيرة عنده نظرا للخلاف الذي وقع بينه وبين خليفته سيدي ولد محمد لحبيب في الايام الموالية لمقتل محمد لحبيب بسبب عدم تشفيعه في بعض قتلته الذين لجأوا إلى حرم لمرابط
يقول لمرابط في رئاء محمد لحبيب ومحنض باب:
"فلله شهر عب بدء ومختما عباب المشاكي والثقاف المعتل
محك نضار الصيرفي وبابه وروض العواصي للحبيب المؤمل
فلله ما من زائف عز ميزه ومن مشكل بعد الرضى لم يحلل"
الخلاصات والنتائج:
نخلص من هذه الورقة إلى جملة نتائج نرة أنها مهمة لدارس تاريخ الإصلاح السياسي في البلد، نوجزها في ما يلي:
- أن دعاة نصب الإمام من العلماء في القرن الثالث عشر تجنبوا الصدام الذي وقع في القرن الحادي عشر نتيجة إدراكهم أن الحرب ليست الوسيلة الأمثل لتحقيق مشروعهم.
- أن الأمراء في هذا القرن سعوا إلى تلبية مطالب العلماء ببسط الأمن لأنهم كانوا مطمئنين على سلطتهم، ولأنهم صاروا أوسع أفقا في فهم السياسة وإدراك متطلبات الشرع من نظرائهم في القرن الحادي عشر
- أن ضعف الإمارات البيظانية في ما بعد منتصف القرن الثالث عشر للأسباب الداخلية والخارجية (الاستعمار، التنازع على الإمارة، دخول بعض قبائل الزوايا على خط المنافسة) قاد إلى توقف مشروع تطوير هذه الإمارات في جوانبها الشرعية والسياسية.









