أنا خِلاسيَّة، أيْ من أبناءِ عرقين مُختلفين،.. كثيرا ما يلمس هؤلاء قَسوة المسافة الفاصلة بين ثقافتين مُتنافرتين، يفصل بينهما جدار رمزي، فبِناء هويَّة متعدِّدة الأعراق ليس هيِّنًا.
يدفعني شغف الفضول دومًا للنَّبش في ماضي والدتي، مع أنها اجتهدت ليظل مُلكها وحدها، طوت نفسها بمباركتها على فسيفساء من الغُربة بمُقاربات عدة، فلا هي من وسطي الاجتماعي بكل أبعاده (غربة الانتماء)، ولا هيَّ كثيرة الكلام عن أمسها (غربة الأحاسيس)، وإن عَبَّرت فباقتضابٍ مُدْغَم يُجاهد لكي يُفصح،.. هي سيدة صلبة الشخصية، قوية الحضور، سخية، جميلة، ومع ذلك تقبَّلها نسيج مُجتَمعي ببطء تجرُّه آلة الزَّمن، بعد أن تمثَّلت من سُلوكه ما تُمليه صكوك التَّقبُّل من دَفنٍ للذَّات الأصلية.
أقتنصُ المناسبات القليلة التي تكشفُ فيها عن رأس خيطٍ، فأندفع بحماس لجذبه إلى النُّور أبعد ما استطعت،.. أجُمِّعُ في صحراءِ مَطموراتها أوصال الأطلال، لعلِّي أنهي حيرتي من بعض خُيوطها المُتشابكة، فقد كنتُ عابرة بين رُكام تلك الأطلال بينما كانت هيَّ مُقيمةً فيها،. ولذا استمتعُ بمشاكستها، باستفزاز صمتها، بتقليبها بعناية كأنَّها كتاب قديم.
أطنبتْ والدتي في تباعد الولادات، ومَنَّت النَّفس ببنتٍ فترة طويلة، حدَّثتني عن مَوقِفها من اسمي الذي أحمل حيني، وكانت تُدلِّلُني بالحَرفين الأوليين منه، تنطقهما بنبرة خفيفة بوُلْفية مضبوطة اللَّكنة، ولم تكن راغبة فيه!، وربما فلقته إلى نصفين لتُغالب أثره، لأنه يذكِّرُها بحُطام أمنية وُئِدَت..
في إقامتها في اندر"سين لوي".. موطن المراهقة والشباب، عاشت مع زوجها الثّري أبعاد حياة ساكِنةِ تلك المدينة "دومو اندر"، كبرياء حياة مرفَّهة وعلاقات متمدِّنة مع موزاييك من الأعراق، غربيَّة، شامية، فاسيَّة..
في فاصل من وجودها ذلك، تبادلتْ الأماني والنَّذُور مع خليلتها المُمرِّضة الكَازَاسِيَّة "مَيْرِي انْجايْ"، كانتا في وضع مُتشابه، أمَّهات لذكور فقط، فتبادلتا عهدًا بتبادل الأسماء إن رُزقتا بالابنة المُرتجاة.
في هذه أخطأت البزگية، فلم يخطر ببالها وقتها أنَّ زاوية تقديرها كانت مُتطرِّفة الثِّقة، وأنَّ خياراتها العفوية في الحياة محكوم عيلها بالتَّغيّر والتَّقييد منذ قرَّرت الاستقرار هنا،.. لكن، رغم انعدام التُّكافؤ الاجتماعي والمادِّي كان زواجها من والدي عن انجذابٍ وإعجاب، فقد أحبها وأوفاها التَّبجيل والاحترام..
جاءت البنت أخيرًا!،.. وبين "لَبِّطَانْ" ومنزلنا بلكصر حَسمت الوالدة أمرها بأن تبرَّ يَمين العَهْد، وتجعلني مَمَرًّا رمزيًّا بين ثقافتين، بأن تمنحني اسم صديقتها الأعز، همست لوالدي بنيَّتها، وكان على اطّلاع مُسبق بها، لم يعترض ولم يوافق، سايَرَ رغبتها على امتداد الحمل بابتسامة،..
لم تكن عَقلية la Saint-Louisienne المنفتحة، تتوقَّع ضرورة استئذانه في شأن اسمي، وسبق أنْ منحته بحيَّاد أسماء أبنائها الذُّكور، بوصفهم المحدِّد لسيرورة اسمه،.. وفي لحظة الحسم قال لها بدهاء: لنشرك فلانا في هذه "النّازلة"، وهو عمِّي،.. رجل، سليل عقيدة اجتماعية خام، مَحميّة بالسَّليقة، امتدادها وجْهه للشَّمال الغربي، ولا أظنّ الحِسَّ المدني بتَقبُّل المُختَلِف كان من مُقتنياته الثَّمينة،.. فلان: ما رأيك في أنَّ كذا؟،.. وقبل أن يستوعب الصَّدمة ردَّ بانفعال: وهل جُنَّت الخادِم؟!،.. هزمها شريكها بحليف مُتعصِّب!،..
هذا الجدل حوْلَ اسمي أعاد ترسيم الحدود بين الزَّوجين في الوطن، استحضرَ وَهْمَ التَّمايز بالوجاهة، لاذتْ الغريبة بصَمت الاحراج، وبما أنَّ الكلام يجرّ الكلام،.. حفَرت لخيبتها في قبو العَتمة النَّفسية، واعتبرت حرمانها من تسميَّة ابنتها مَلمحًا من جِراح خرساء الأنين، هيَّ كُلفة زواج مُتعارض البيئات والمستويات،.. استسلمتْ رغم كبريَّائها المَارد المُعاند، رضختْ لما يليقُ بالأعيان من أسماءٍ هُمْ صُنَّاعها وهُمْ حُرَّاسها بشراسة،..
لم تُغادر خيبة الاسم ثنايا ذاكرتها، فسكوتها لم يكن اختيَّارًا، كان انتصارًا على رغبتها، بعد أنْ رأت مِصداقَ ما سمعتْ،.. فهي ليست مرفوضة في شخصها، لكن الرَّفض كان للعالمِ المُختلف الذي جاءت منه.. وتقبُّلها لن يعني بالضَّرورة تَسيُّدها المفتوح في مُجتمعات تُعلن عن نفسها بدستورٍ مُغلق، ويُقابَل فيها الاختلاف بضوابط حذرة لا تَقبَلُ العبث.
عموما، كنتُ نظريًّا مع حقِّها في اتّخاذ القرار بمشيئتها، استَعَدْتُ الحادثة في ذهني مِرارًا،.. لكن الغريب أنَّ الأمرَ لاحَ وكأنَّه يخصُّ شخصًا آخر غيري، كان صمتي أمامها يَخذُلها، ويَفضح عدم مُسايرتي سَعيها ذلك لتسميتي، ولوْ بقبولٍ مُجامل بفعل رجعي، فقد التحقَ عقلي الاجتماعي بأصولي من أبي ليحمل نفس السَّيف الذي رفعوا في وجه خلفيَّتها الغريبة عنهم، عنِّي!،.. فاكتشفتْ أنِّي وإيَّاهم وجْهان لجُرْحٍ واحدٍ..
هلْ كنتُ لأرضَى عن اسم "مَيْري"؟.. قطعًا لا!،.. رُبَّما لأنَّه لا يمتُّ لي بصلةِ رحمٍ، أو صلة ثقافة، أو ربّما لأني تَشكَّلتُ ذِهنًا ومُجاراةً لصالح الطَّرف الآخر!، .. لقد تمالأتْ والدتي بإدراكٍ مع حالة تنميطي الدَّقيقة على غير ثقافتها، فلم تنتصر كثيرا لهويَّتها الذَّاتية، كما أنَّها لم تنشغل بالتَّفردِ بِي، أو بافتعالِ مُناخٍ مُتضاربٍ، اكتفت بتلقيني لهجة أعجمية، وضبط سلوكي، وتوريثي رصيدها من الممارسة المدنية المُستجلبة.
الخِلاَسيُّ، تَكتُّل من ملامح الأمشاج المُرتَحِلة، والتّعبيرات المُغتربة، تتعايشُ، تتجزأ،.. قد يُجربُّ تَعارُض القيِّم وتَضادّ المَحاذير في ذات الموقف .. مُرهقٌ ومُمتعٌ أنْ يَتقمَّصَ الخِلاسِيّ مَوقفين مُتنافريْن ومُتحيِّزَيْن في ذات الآن، أحدهما تُمليه النَّفس وما تَهوَى، والآخر يُمليه قانون الواقع،.. كان ميلي نَحوَ أنْ أُعْرَفَ بثقافة أبي طبيعيَّا، بوصفها القُطب المُتغلِّب،.. وجدتُني أسعد بحَمْلِ اسم جدَّتي لأبي، نعم!.. وارتحتُ لميلان ظلال "مَيْرِي" إلى حتف النِّسيان،.. لكن أحسستُ وخزًا بانهزام ذلك الاسم الذي جرَّبتْ به والدتي تحقيقَ بعض ذاتها في غيَّاب ظهير مُتفهِّم..
كان عليَّ - لزامًا - أن أحملَ اسمًا من تلك الأسماء المُحنَّطة كالمُسلَّماتِ الصَّماء، الرَّاعية لذاكرة الأسلاف ،.. أسماء، مُنبعثة من أمزجة الصَّفوة، وضُمِنَ لها أنْ تُستنسَخ أبدًا، بإحْلالِها تَواليًّا في حياة أُخرى، مع ولادةِ كُلِّ طفلٍ، وتُكَرَّرُ بالتَّوصية كمِصدَّاتٍ دفاعية ... وكان لزامًا على والدتي أن تَتَنازلَ لصالح سطوة أسمائهم دون حَيرة.. ولذلك اختارتْ الرُّسُوَّ على المَرفأ الأقرب: مرفأ الصَّمت الغَضِب!. فالإبحار بين الأمواج المُباغتة بمركب الزَّواج المُختلف أصعب من بنائه أصلا.
اعتبرُ الاسم أمانة، أكرهُ بشدَّة الأسماء الشَّعبية للأشخاص، وأحبّذها للأماكن.
اجتاحني إصرار بأنْ أحسم أسماء مشاريع أطفالي، وأن أستفيد من هامش لُيونة ما قبل "شَرَك الزَّواج"، فأفاوض تجنُّبا لمعارك طواحين العبث.. أعددتُ لائحة للبنين والبنات، وبدأتُ عرضها على مشروع والدهم المَوْعود، بَدَا متقبِّلاً للفكرة، تابع معي يُكرِّر: مقبول، دَاكُورْ،.. إلى أنْ وصلتُ إلى اسم زعيم مُعاصر، فقال بنبرة كَسْلى: «ذيك زُوزيها»، حاولتُ للحظةٍ بَدَتْ غير متناهية بلوغ مَرْمَى نوازع نفسه، ثم فهمتُ!، .. أغفَلتُ وواصلتُ حين آنستُ منه التَّعنت،.. عُقدة الذُّكورية فيه استنْفرت اعتراضه على ذلك الاسم بالذَّات، لأنَّ الذِّهن الأُسَرِي المُحيط بنا سيُحيل تلقائيًّا أمرَ اختياره إليَّ، لا إليه!.. ترجَّلتْ منِّي أولى الخَيبات على تُخوم تعصُّبٍ تَجمَّلَ بوهْمِ انفتاحٍ مُقيَّد بتأويل المُجتمع.
ضَمَّت اللاَّئحة تحت لوائِها أسماء فصيحة، قُحَّة، جمالا ورمزيَّة تاريخية، ستربطني بأصلي وبأرحامي النائية، صَفَّيناها معًا بالتَّفاوض، والتزمنا بها بالتَّراضي،.. فحَمَلَها أطفالنا لاحقًا، في جوٍّ من وُجوم العائلتين، استقبلتهُ بلا مبالاة هادئة،.. لقد شعرتُ بنشوة إحكام قبضتي على مِعصم قَراري، ببسط سيادتي على أسماء أبنائي، لحمايتها من عشوائية عَقيمة سَقيمة، متحجِّرة وباهِتة من فرط الاستخدام..
تلك الأسماء هدية منِّي لنفسي، ولهم.. فقد سلكتُ مسلكًا استباقيًّا بتمرُّدٍ على تكلُّف الحياء وغطرسة الطَّاعة العَمياء، كانت يَقْظَةً منِّي نحو حُلم تَلبَّسَني، في حين أنَّ ما حصل مع والدتي كان حُلم يقظَة بِكسْر قالب الأصول، وكان له أنْ ينتكس، فلا الزَّمان زمانه ولا الظَّرف ظرفه، فقبول قرارها وقتها سيضمن لها التَّطابق مع الأصهار الأعيان، ..
نجحتُ مع الزَّمن في إعادة هيكلة هويَّتي، بتحرير نفسي من مأزق التَّنافر الثقافي، ببناء "الأنا" المتناغمة مع تنوُّعي الخاص.. فعدم التَّجانس العرقي بين والِديَّ، فوَّضني ذهنيا لتمثُّلٍ رمزيٍّ بالانتماء للثقافتين، خارج دائرتين هُما: الشّيء ونقيضه.
وأما الاسم فخيَّار يلاحقُنا مدى الحياة، مُلتصق بنا كالظِّل،.. والصّمت حيَّاله اصطفاء بين إحراج مؤقت وحسرة دائمة.
اسعد الله أوقاتكم.
هذا اطويلْ؟ .. حگْ، كتَبتُه لنفسي!.. گظُّوهْ بمقطع من فيروز رائع.. "أَسَامينا".