إبراهيم الدوري
كاتب وباحث
يرى عبد الملك بن قُريب الأصمعي (ت 216ه) أن "خير الشعر ما رواك نفسه"، وتلك لعمري خلاصة تجربة شيخ أضناه الترحال في مرابع الأعراب بحثا عن غريب الحكايات، وطريف الروايات، والأصمعي إذ يجعل رواية الشعر معيارا لحسنه، فإنه بذلك ينعي كثيرا من الفرائد التي ضاعت في قراطيسه المتجولة، أو نسيها الشيخ يوم كان يحدث ابن أخيه عبد الرحمن، وهذا الحكم الأصمعي الدقيق يترك للمتلقي حرية الذوق، فكل يعلق بذاكرته ما يستجيده، ويستعصي عليه ما تنفر منه طبيعته.
ولرواة الشعر وشداة الأدب من ذلك حكايات طريفة؛ فكم قصيدة فرَّت من متعلق بها، ومن قريض فرض نفسه على سامعه؛
ومن القريض الذي لم يبارح ذاكرتي منذ سمعته أول مرة قصيدة لشاعر الحرية المرحوم المهندس الشيخ ولد بلعمش في ذكرى سقوط غرناطة، فقد نكأ المرحوم الأبي جرح الأندلس الذي لم يندمل على طول العهد وتبدل الأحوال، ف"هوى" غرناطة لا يزال غضا طريا يتلى في محاريب "شنقيط" وغيرها من مدن الإسلام العظيمة.
و"الدروب" الحزينة لم يزل أهلها يمشون بين حسرة الرندي و"بكاء أيتام لم يكبروا" رغم مرور الآماد المتطاولة، فلم تزل "حروفهم تتوشح الأسى" لأن مداد قصائد الحمراء انقلب دما عندما، وأوتار زرياب تنتحر صبابة لتترك الشاعر وحيدا يتلو على السفح الحزين قصيدة عصماء فريدة كنخلة صقر قريش الذي جدد سنة الشنفرى الجاعل "في الأرض منأى للكريم عن الأذى" لأن "قدر الصقور من الليالي مهجر".
والمهاجرون دوما بخير قبل أن يتعمد الليل نكأ جراح أمتهم التى لم يزل جرح قدسها وشامها وعراقها ومصرها ويمنها مفتوحا يتفرج على أسياف الطوائف التي مزقت عمائم عبد شمس لتعقد لواء الخزي لأمثال بشار وعباس والسيسي وحفتر ليتركوا الأفق الرحيب أضيق من سم الخياط، وأزهار طفولة حلب والإسنكدرية والفلوجة ذابلة حسيرة.
وحينئذ ليس من سبيل للشعراء المحترقين همّاً وغيرة على خرائط حزن أمة تتسع كل يوم إلا مبيت مع ابن حزم لتخفيف وطأة العشق الأندلسي وتقصير ليل أساهم الطويل ليأخذوا من نفحات "محلَّاه" و"طوق حمامته" ما "يهذبون به نفوس" الأجيال و"يداوون" به انفصام "الأخلاق" الذي أصاب أجيالا من الأمة، لتتأصل "أحكامهم".
ومن بات مع ابن حزم وأخذ فقهه وذهب مذهبه في الحب لا بد أن يقيل مع ابن رشد الحفيد ليتعلم مسالك التفكير وليتقن "فصل المقال" بعد أن يأخذ من كل علم "ضروريه"، ومن يَقِلْ في بيت "حكمة" ابن رشد فليأخذ لوجدانه نصيبا بعد الأصيل من مجلس "ولادة" ليرى ابن زيدون يتبختر منشدا "نونية" الفراق الآسف ليبكي ملكا أضعناه كما يفعل المقصرون مع عز القصور، ويبكي "أندلسا و طارقَ و الأُلَى * حرقوا السفين على الضفاف لِيعْبُرو.
حين يقع الشاعر على الشاعرألهمت مآسي الأندلس وتساقط مدنها العظيمة إلى الشعراء رثاء المدن، وكانت قرطبة الأولى في ذلك لما نهبت في زمن ابن أبي عامر، فرثاها أعلام منهم ابن شهيد وبان عصفوروابن العسال، وأبو الحفص الهوزني، ورثى ابن خفاجة وابن الأبار وابن عميرة المخزومي بلنسية، وابن الراوندي أشهر من بكى الأندلس وقد سارت الركبان ببكائه.
اشتهر الشيخ بلعمش بمعارضاته الشعرية لكبار الشعراء من لدن عمرو بن كلثوم إلى أمير الشعراء شوقي في قافيتيهما الشاميتين، وقد سألته هل عارض في بكائه الأندلس مرثية ابن شهيد لقرطبة، ومطلعها:
ما في الطلول من الأحبة مخبر ..... فمن الذي عن حالها نستخبر
وفي ختامها يقول:
حزني على سرواتها ورواتها ................ وثقاتها وحماتها يتكرر
نفسي على آلائها وصفائها ............. وبهائها وسنائها تتحسر
كبدي على علمائها حلمائها ............. أدبائها ظرفائها تتفطر
فأجاب الشيخ أنه لم يستحضر قصيدة ابن شهيد حين كتابته وإنما وقوع شاعر على شاعر في غرض متحد وأسى متجدد، وعفا الله عن الليالي التي لم تصغ لقول الشيخ حين ناداها:
يا ليلُ لا تزد الجراحَ على فَتًى * ما زال جرح القدس فيهِ يُكبِّرُ!