
في البدءِ… كان الحرفُ نبيًّا يمشي بين الناس، يُبارك الخبزَ، ويُدين الجَوْر، يُنشئ وعْيًا على مهلٍ، كما تنبت سنبلةٌ من ضلع صخرة. كانت الكلمةُ صلاةً، وكانت الصحافةُ وضوءَ المعنى، لكنهم… كفّروا الحبر، وأقاموا على جثته طقوس التسويق والتضليل.
ها نحن نراها… الصحافةُ الموريتانية، مئذنةٌ مهدومة، يعلوها صدى المؤذن، ولا مسجدَ تحتها، ساريةٌ بلا شراع، مرآةٌ فقدت وجه الحقيقة، فانعكست عليها وجوه المتسلقين.
ما عادت الكلمةُ تُصاغ من ضوءٍ، بل من غبارِ الصياغات الجاهزة، وما عاد المقالُ يُكتب ليُستنطق العقل، بل ليُعزف على وترٍ مكسور من الرضا السهل.
في زمنٍ ما، كانت الصحافةُ أشبه بمرآةٍ مصقولة، كل من نظر فيها، رأى وجه وطنٍ يتكوّن… أما اليوم، فمراياها مغبَّشة، تعكسُ ما يريدُ المارّ أن يراه، لا ما هو كائن.
ليست الأزمة في الورق، فالورق حياديٌّ كالريح، لكنّ البلاء في الكفّ التي تمسك القلم، تُمسك به كما تُمسك الريشة، لكنها ترسم به ظلَّ ظلّ الحقيقة، ثمّ توقّع باسمه كما لو أنّها أوفت بأمانة الضوء.
يا صاح… لا تسأل عمّن يكتب، بل عمّا يكتب به: قلبٌ أم دفتر شيكات؟ لا تسأل عن طول النص، بل عن عمق الحرف، هل نبت من تربة الصدق؟ أم هبط كحذاءٍ من أعلى الرفّ… ليلبسه أولُ قادمٍ؟
الكلمةُ التي لا تخجل من ماضيها، هي وحدها التي تستحق أن تُقرأ، أما تلك التي تتنكّر لكل جُرح، وتُجاملُ كل جدار، فهي طيفُ عبارة، لا روح فيها ولا نُطق.
لا بأس أن تخفتَ الأضواء، فبعض الحروف تُضيء في العتمة. ولا بأس أن تنبح الألسن من كل صوب، فالصدقُ لا يُعلَنُ في الأسواق، بل يُوشَم في الجَبين.
إننا لا نرثي مهنة، بل نبحث عن الروح التي هجرت نصوصنا، عن الأمانة التي خُلقت للكلمة، ثم أُلقِيَت تحت الطاولة، عن النصّ الذي إذا سُمع… ارتعشت اللغة، وشهق المعنى، واغرورقت عين الضمير.
فيا من تكتب… تذكّر أن الحرفَ عِرْضٌ، وأنّ المقالةَ مِحراب، وأنّ كلّ كلمةٍ تخرج منك، إما شاهدٌ لك… أو نائحةٌ عليك.
غير أن الصورة لا تكتمل، ما لم نُومِئ إلى أولئك الذين يمشون وحدهم، بأقلامٍ لا تنحني، ولا تستعير قامتها من ظلّ أحد. هُم لا يُرَوْن كثيرًا، لكن آثارهم باقية كخطواتٍ على وجه الماء، شفيفةٌ… لكنها لا تُمحى.
هؤلاء… من يكتبون من منازل الصبر، في ظلال الإقصاء، وعلى حوافّ النسيان، يُدثّرون مقالاتهم بصدورٍ لا تملك دروعًا، ويَشْحذون الحقيقةَ كلّ صباح، كما يُشحَذ الخبزُ على مائدة الجوعى.
أقلامهم لا تُعلن نفسها، لكنها تشقّ الورق كالمحراث، وتذرع في السطور سنابلَ وعيٍ لا يراها إلا من كان قلبه على الكلمة.
يعيشون بلا أعمدة، ولا احتفاء، ولا ميكروفونات مصقولة، لكنهم حين يكتبون، تتردد في النصوص أصواتُ المعذبين، وترتفع الحروف كما ترتفع صلاةٌ في آخر الليل.
هم الرُهبان الحقيقيون في معبد الحرف، يكتبون لا ليُصفَّق لهم، بل ليُشفى المعنى من علّته، لا يمدّون يدًا للضوء، لكنّ الضوء، وحده، يعرف طريقه إلى عناوينهم المغمورة.
إنهم لا يخوضون المعارك بصوتٍ عالٍ، بل بسكينة مَن يعرف أن الصدق لا يحتاج ضجيجًا، بل يقينًا.
فلا تظننّ أن الصحافةَ انطفأت… ففي كل زاويةٍ، وفي كل زاوية من الهامش، ثمّة من يكتب على قماشة قلبه، ويعلّق مقاله على حبل الغسيل، ويقول للعالم: لم نَبعْ، ولن نبيع.