إن فكرة السلام السرمدي مقبرة الحالمين، وإن الحرب فكرة معقولة لدى الواقعيين رغم أنها أسوأ ما يمكن أن يمر به مجتمع بشري، فالتدافع والتغيير سنة كونية وحتمية تاريخية وأحيانا لا يكون ذلك إلا بخوض غمار المعارك؛ مثل الحروب التحريرية ضد الحركات الاستعمارية في العالم الثالث خلال القرن الـ20. وكل الذين استيقنوا هذه الحقيقة لم تصفعهم الدهشة والذهول بنشوب قتال في أوروبا ينذر بسلسلة حروب محتملة أو بالأحرى حرب عالمية ثالثة.
لقد وقعت أوكرانيا بين أنياب الدب الروسي والمواجهة ليست عسكرية فقط، بل حتى الأدب الحربي بدا أنه سيستعيد وظيفته التي لا يعترف بها الكثيرون، وهي وظيفة أشبه بالدور الجيوسياسي الذي يلعبه الإعلام، مما جعل بعض الكتاب الغربيين يتحدثون عن ضرورة تحييد الأدب وعزله عن القرار السياسي.
حديث حماية الأدب من القرار السياسي بدأ من جامعة "ميلانو" الإيطالية حين منعت تدريس الأعمال الأدبية للكاتب العالمي "فيودور دوستويفسكي" الذي مضى على موته عشرات السنين ولا جريمة له في الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022 سوى أن جنسيته روسية، بل إنه عاش كأبرز المناهضين لفكرة الحرب، الأمر الذي جعل بعض شخصيات النخبة الإيطالية تدافع عنه إلى غاية تراجع الجامعة عن قرارها.
كان "دوستويفسكي" متأثرا بدراماتيكية المعارك وما يولد من رحمها النازف من قصص تراجيدية للناجين والمعطوبين جسديا أو وجدانيا
وإذا كان "دوستويفسكي" متأثرا بدراماتيكية المعارك وما يولد من رحمها النازف من قصص تراجيدية للناجين والمعطوبين جسديا أو وجدانيا، فإن الواقع أحيانا يتطلب الصرامة العقلية أكثر من العواطف الوجدانية، كأن يكون الحياد خيانة وطنية في حرب استرداد الحق المهدور أو حماية الأمن القومي، هنا يظهر الأديب أو المفكر الملتزم، فالأدب لا يمكن أن يكون حياديا ولا أن يبقى في منأى عن السجال السياسي دائما، وما وجد المذهب الرمزي الأدبي ومدرسته إلا ليحتمي الأدباء خلف الرموز والإيحاءات من بطش الرقيب السياسي المستبد.
ثم يقول البعض إنه لا ينبغي للأدب أن يكون "بوقا دعائيا لأحد أطراف الصراع"، في حين أنه إذا جمع الشمس والقمر يوما فإن الحق والباطل لا يجتمعان، والموقف ينبغي أن يكون مبنيا بما يحفظ للأمة مصلحتها العامة، وتلك إحدى وظائف الأديب والمفكر الملتزم، فإذا لم يكن كذلك فإنه حر ومسؤول عن مواقفه، ويتحمل مسؤوليته أمام ضميره وأمام محكمة التاريخ التي سترفعه أو تضعه.
بل إن كثيرا من الأدب خرج من بين أصابع الحرب كالملاحم البطولية، وكانت كلمات الشعر المرصوصة تلهب حماسة المحاربين للقتال مثلما فعل الفاتحون المسلمون أو كما فعلتها حتى بعض جيوش الأمم الغربية في حروبها.
وقد أصدر اتحاد كتاب روسيا عبر موقعه الإلكتروني بتاريخ 28 فبراير/شباط 2022 بيانا فظا غليظا يستنكر فيه تصريحات بعض المثقفين والمفكرين الغربيين ضد بلادهم وقرار رئيس سلطتهم "فلاديمير بوتين" باجتياح أوكرانيا التي صارت تشكل تهديدا خطيرا على أمنهم منذ تطور التعاون بينها وبين الولايات المتحدة إلى تعاون عسكري، وفي المقابل كانت قد صدرت بيانات غربية منددة بما سمته "الغزو الروسي" باعتباره تعديا على سيادة دولة، ولعل أبرزها ما أصدره اتحاد الناشرين الأوروبيين، فكيف يكون الأدب حياديا؟
وإذا اعتبرنا أن هذه الاتحادات خضعت لضغوط السلطة السياسية في بلدانها، فإن الدليل الذي ينفي الفرضية هي المواقف الفردية المستقلة، فالكاتب الروسي الذي ولد بأوكرانيا وهو الأكثر مقروئية "يفغيني فودولازكين" كشف عن موقفه قبيل اندلاع الحرب بساعات قليلة من خلال الحوار الذي أجرته معه صحيفة "إيه بي سي" (ABC) الإسبانية.
حيث حمل فودولازكين المسؤولية لواشنطن، وقال حرفيا في إجابته على سؤال الصحفي "أظن أن الذي اندلع ليس حربا محلية بل هو نزاع جيوسياسي استمر منذ زمن طويل بين روسيا وأميركا.. للأسف فالدور الرئيسي هنا يعود للولايات المتحدة، وبالنظر لزاوية تاريخية فذلك أمر طبيعي، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي أصبح العالم أحادي القطب وروسيا تكافح ضد ذلك".
فما الذي كان سيقوله "فيودور دوستويفسكي" لو كان حيا؟ وكيف يكون الأدب حياديا والحديث عن حيادية الأدب حديث وردي بعيد عن ألوان الواقعية؟
-
فائزة سعد لعمامري
كاتبة وصحفية جزائرية