دعاء الشامي
الموت والحياة.. الحب والفراق.. الخوف والأمل.. الأصالة والحداثة.. كثيرة هي المعاني التي طرحتها "حياة مثقوبة"، ورغم أنها جاءت في مئة وخمسين صفحة من القطع المتوسط فقط، فإن كاتبها أحمد ولد إسلم استطاع أن يطوف بنا في عوالم ومعانٍ متنوعة برشاقة، عبر المرور في سراديب مشاعر شخوصه.
اختار الكاتب، في روايته الصادرة حديثا عن دار الشروق، أن يكون الاستهلال غامضا، فهي مجرد مجموعة من الأوراق موجهة من ممرضة بمستشفى إلى شخص غريب، مع بداية السطور الأولى يجذبك السرد، فتشعر برشاقة الكتابة وتماسكها فلا تملك معها إلا أن تكمل.
"
"فحين وصلت إلى هذا المستشفى كنت فاقدا لغريزة الخوف، ولم تعد غريزة البقاء ذات فاعلية كبيرة، ولكني أيضا لا أكره الحياة، أو لم أعد أكرهها حين صار بإمكاني أن أتحكم في الإزاحة الشعورية لأعيش مع كلير ستين دقيقة كل أسبوع على أنها أنت"
"
أراد الكاتب أن يخبرنا عن تلك المشاعر والحواس التي بدأت تتساقط من بطله واحدة تلو الأخرى، لنراجع ما لدينا من مشاعر، محاولا نقل القراء بين عوالم الخوف والموت والحكمة.
الأسماء والمكان
مُخفيا اسمي بطليه الرئيسيين، يخبرنا الكاتب أن القصة قد تصلح لغيرهما، مفضلا الغوص في أعماق شخصياته، راسما من مشاعرهم الإنسانية عالما بعيدا عن كل ما هو سطحي وكأنه يرفع راية تشابه ما بداخلنا في مساحة سردية لم نعهدها كثيرا.
ورغم ذلك فقد أولى اهتماما خاصا باختيار أسماء بقية شخوصه، مقارنا بين بيئتنا العربية ونظيراتها الأجنبية بخصوص محددات اختيار الأسماء وما يلتصق بالشخص منها.
أما المكان -فكما يبدو- هو غرفة في مستشفى، غير أنه بدا دوما أكثر اتساعا عبر تطوافه الدائم داخل أغوار شخصياته وخارج نوافذ قلوبهم، وكأنه أخذنا في جولة إلى ما يحتاجه الإنسان وما يشقى به، ما يأمل في حدوثه وما ينوء بحمله، ليبقى المكان أوسع من غرفة وأبعد من حيز محدود بجدران.
انتقاء الذاكرة
وبدا الانتقال سهلا بين ذكريات بطله مع حبيبته وبين حياته بعدها، ويتعجب في روايته "كيف تنتقي ذاكرته من بين ملايين اللحظات التي تمر بها؟ّ!".
ويعبر الكاتب ذكرياته التي ظلت تستعصي على النسيان ليخبرنا عن عالمه قبل أن ينتهي به المطاف وحيدا في غرفة بمستشفى فخم يتمتع بأرفع درجات الرعاية وسط تنوع بشري من جنسيات رواده والعاملين فيها، ورغم ذلك فهو حبيس "ذاكرة محدودة القوة تأبى حتى أن تخبره باسم محبوبته، تلك التي هو في أشد الحاجة لها الآن".
الموسيقى.. ثراء التنوع
نجح ولد إسلم في الهروب من فخ المحلية من دون أن يفقد بوصلته في الكتابة، فلم يبق أسيرا لشوارع وحكايات نواكشوط وعاداتها كما يحدث عادة، بل طاف بين عوالم مختلفة رابطا بين أصالة مجتمعه ورحابة الآخر البعيد تماما عن صحراء بلاده.
وبدا الكاتب متمسكا بخيط موسيقي يخصه وحده، فالفنانة ديمي منت آبا التي ذكرها في روايته هي اسم لا يمكن نسيانه في موريتانيا ولكنه غريب لدى كثيرين.
ولهذا فقد حمل على عاتقه التعريف بالفنانة "صاحبة الصوت الملائكي"، لكنه لم يتوقف عند هذا الحد بل انتقل إلى ضفة أخرى من عالم الموسيقى ذاكرًا "بيث هارت" المطربة الأميركية التي مزجت بين موسيقى البلوز والروك أند رول واستلهمت أغلب ألحانها من التراث الموسيقي الأفريقي، منتقلا بذلك من رقة وجمال صوت ديمي بنت آبه إلى قوة وصلابة هارت التي تقدم صوتا آخر.
وسابحا في عوالم موسيقية جديدة يعرفنا على "إيلا هندرسون" المغنية البريطانية الرقيقة التي اختار لها أغنية "أنا لك" ليعلن عن شخصية ومشاعر إحدى شخصياته، ولم يتوقف هنا بل ذهب إلى السودان عائدا بنا إلى الموسيقى الأفريقية من جديد وهذه المرة مع الفنانة فاطمة عمر، ناقلا الأغنية العربية إلى إحدى ممرضاته الأجنبيات بأغنية "قاعد أموت.. لما مواعيدك تفوت"، مازجا بينها وبين مشهد يفيض بالمشاعر.
ولم يكتف بهذا القدر من الموسيقى، بل مضى -في موضع آخر من الرواية- يرسم مشهدا بديعا يمزج فيه بين ما تحكيه الموسيقى وطقوس الدفن فكتب متحدثا عن مقطوعة شهيرة للموسيقيّ الإيرلندي الفرنسي فريدريك شوبان "مسيرة الجنازة" شارحا المقطوعة باقتدار.
المقاومة.. سر الحياة
ظهرت فكرة المقاومة منذ الصفحات الأولى للراوية، فقد ربطها بالحب تارة فكتب عن صورة يحاول تذكرها مع حبيبته فقال "كانت (أي الصورة) لحائط في إحدى الدول العربية التي تمنع الحب، تحمل جدران شوارعها كثيرا من عبارات الغضب، وقدرا كافيا من السخرية اللاذعة، ومن بين كل تلك الألوان المتداخلة برزت جملة كتبت بخط جميل، تقول "كلما أردت أن أقول لك أحبك، طلعت كيف حالك.. وأنا كيف حالك جدا..".
ثم ذهب إلى مقاومة العمال للعالم الرأسمالي الذي يجعلهم يبتعدون عن أوطانهم لسنوات.
ويروي الكاتب حكايات مختلفة من أجملها تلك التي حكى فيها عن دور الجهاز العصبي في عمل الجسم وكيف أن هذا الجهاز يساعد كل عضو في القيام بدوره، مشيرا إلى أن التلف الذي يحدث في أجسادنا ربما يحتاج في كثير من الأحيان إلى المقاومة.
يقترب الكاتب ويبتعد ثم يعود إلى الحب والذاكرة ودورهما في الحفاظ على معنى الحياة، وانعدام الأخيرة في ظل غيابهما، فينهي الكتابة تاركا قارئيه أسرى لكل تلك الحكايات التي غابت عنا بقوة الاختيار الانتقائي للذاكرة، تلك التي تنتقي ما تريده بغرابة لم نكتشفها بعد، تماما كما هي الحال بين الموت والحياة.
المصدر : الجزيرة