الشاعر والجمهور وجْهانِ لِعُمْلَةٍ واحدةٍ، هي: المُلْقِي والمُتَلَقِّي، وكلاهُما يشْعرُ بحاجتِه العضْويةِ للآخَرِ، بحيث إنَّ الشاعرَ إذا لمْ يجِدْ جمهورًا، يتَقمَّصُه، داخِلَ ذاتِه، فيُجَرِّدُ منْ نفْسِه مُتَلَقيا، فتراه يُلْقِي شعْرَه بصوْتٍ مسْموعٍ، وبأدَاءٍ مَسْرَحِي أمَامَ مِرْآةِ رُوحِه، وكذلك الجمْهورُ، عندما يفتقدُ الشاعرَ، يتقمَّصُ دوْرَه، فيُعَوِّضُ الشعْرَ إنْشاءً، بالشعْرِ إنْشادا.
ورغم قوةِ العلاقةِ العضْويةِ بيْن هذيْن الطرفيْن، لا أحَدَ يُنْكِرَ التصدُّعَ العميقَ الذي أصابَها اليومَ، فأصبحتْ- في الغالبِ- قاعاتُ الأمْسياتِ الشعْريةِ، خاويةً على عُروشِها، وبقدْرِ تعَدُّدِ أسْبابِ الوصْلِ، تتعدَّدُ أسْبابُ الفصْلِ، حسَبَ وجْهةِ نظَرِي.
وأنا أعتقدُ أنَّ حَرَارةَ التجْربَةِ الشعْريةِ، وصدقَها الوجْداني، وتمَيُّزُها الفنِّي، والانفعالَ بها لحْظةَ الأدَاءِ، هي أهمُّ عَوامِلِ التأثيرِ والتأثُّرِ في عمَليةِ إلْقاءِ الشِّعْرِ وتلقِّيه، بغَضِّ النظَرِ عنْ مُسْتَوَى الجمْهورِ؛ فالشعْرُ الذي يتمَتَّعُ بهذه الخصائصِ الجَوْهَرِيةِ، يسْحرُ نفوسَ المُتَلَقِّينَ، وحتَّى لوْلمْ يكونُوا مُدْرِكينَ- حقيقةً- للأبْعادِ الجَمَالِيةِ فيهِ، وبالمُقابِلِ، تُعْتَبَرُ برُودةُ التجْربةِ الشعْريةِ، وتكَلُّفُها، واجْترارُ أسْلوبِها، وافْتعالُ أدائها، من أهَمِّ عوامِلِ القطيعةِ بيْنَ المُلْقِي، والمُتَلَقِّي؛ فالفرْق كبيرٌ بيْن التجْربِةِ والتجْريبِ، بيْن الانْفعالِ والافْتِعالِ....
ومن هنا، أعتقدُ جازمًا أنَّ الوُضوحَ والغُموضَ، ليس لهما كبيرُ دوْرٍ في جَدَلِ الوصْلِ والفصْلِ، بين المُلْقي والمُتَلقي، كما يزْعُمُ الكثيرون، فليس كلُّ مَفْهُومٍ واضِحٍ، جَذَّابًا، وليس كلُّ غامضٍ، مُنَفِّرًا.
وعلى ضوْءِ هذه الرُّؤْيَةِ كنْتُ منْذُ التسْعيناتِ، أنادِي بما سَمَّيْتُه:" الشِّعْرَ الحَّارَ"، باعْتبارِ صِفَةِ الحَرَارَةِ -إذا توَّفَرَتْ- لا يَضُرُّ الشعْرَ أنْ يكُونَ "حُرًّا"، أو"عمُوديا"، أو "قديما"، أو "حديثا"...،ـ وإذا فقدتْ، لا يَنْفَعُه –أيْضًا- انْتِسابُه لأيِّ واحدٍ من هذه المُسَمَّيَاتِ، مع تحَفُّظِي على كلِّ تلك المُصْطَلَحَاتِ المائعةِ، العديمةِ الكِفَايَةِ الوصْفِية، فبِغِيابِ الحَرَارةِ يُصْبِحُ الشِّعْرُ التقْليدي مُجَرَّدَ نظْمٍ، ويُصْبِحُ الشِّعْرُ المُعَاصِرُ مُجَرَّدَ نثْرٍ.، وفي كِلْتَا الحالتيْن، يفْقدُ الشعْرُ أيَّ جَاذِبيةٍ له في نفوسِ الجماهيرِ.
وإذا رأيْتَ الجمْهورَ يَزْدَحِمُ على أمْسِيةِ هذا الشَّاعِرُ، وينْفَضُّ عنْ أمْسِيةِ ذلك، فاعْرِفْ أنَّه صادقٌ في كُلَّ منْ موْقِفيْه، حيث يشْعُرُ بالمُشارَكَةِ الوجْدانيةِ هنا، ويفتقدُها هناكَ...
وعلى كلِّ حالٍ، أنا لا أنْظرُ إلى الجمْهورِ تلك النظْرَةَ المُتعاليةَ، التي تقيسُ قيمةَ الشاعرِ، وشِعْرِه بدَرَجَةِ ابتعاده عن الجماهير، بلْ أعتبرُ الجمهورَ سيدَ النُّقادِ، فالقصيدةُ التي تستطيعُ أنْ يَتَوَحَّدَ حوْلَ جاذبيتِها جمهورٌ غيْرُ مُتَجَانِسِ المُسْتَوَياتِ، ولا الخَلْفِياتِ، ولا الأهْواءِ، ولا الأذْواقِ، هي القصيدةُ الحَقيقيةُ، أمَّا القصيدةُ التِي تُرْضِي زُمْرَةً من النُّقَادِ، لأنَّهم يروْنَها مَعْرضًا لمَناهِجِهم النقْديةِ، أو مَتْحَفًا لرُؤاهمْ الفنِّيةِ، أوْ تُرْضِي مَجْمُوعَاتٍ من الجمْهورِ، لأنَّها تُخاطِبُ إيديولوجيةَ هذا، أو نزْعةَ ذلك، فهي القصيدةُ المَحْدُودَةُ النُّفُوذ.
أدي ولد آدب