الصغير "سعد" في صحن الكعبة / عبد الله محمدن امون 

خميس, 04/04/2024 - 06:43

عبد الله محمدن امون 

 

 

كنت قد أرسلت الصغير "سعد" مع أفراد العائلة غير القادرين على تأدية العمرة مشيا على الأقدام فأدوها على العربات، ولما اجتمعنا عند نقطة الالتقاء المحددة قال بصوت يشي بنوع من الحسرة وخيبة الأمل (تلك الطريقة لم تعجبني)، قلت له: مالذي لم يعجبك، فأجاب: أنا لم "أتزگنن" بالكعبة كما ينبغي، لقد كنا "نتزگنن" على السطح ولم تقترب من الكعبة، وهذا ليس ما رأيت في التلفزيزون، أريد أن " أتزگنن" بالكعبة في الأرض، قلت له لا تحزن، سأحاول إيصالك إلى صحن الكعبة حتى "تتزگنن" بها على الأرض.

أنا أعلم أن إدارة الحرم قد منعت منذ سنتين مجرد دخول المسجد على غير المعتمرين، أحرى الوصول إلى صحن الكعبة، ومع أنني كنت قد تحللت ووضعت إحرامات جانبا، إلا أنني قررت أن أبلغ جهدي في سبيل تحقيق رغبة الصغير. نام الطفل ليلته مسرورا بعد أن أن أخذ وعدا من أبيه بالنزول ضحى الغد إلى صحن الكعبة، والآباء بالنسبة للأبناء الصغار لا يعرفون المستحيل إذ هم تجسيد للرجال الخارقين الذين يصنعون المعجزات.

صادف الغدُ الجمعة الماضية الموافقة للتاسع عشر من رمضان، وهو ما يعني توقع زحمة أكبر وتعامل أشد من الحراس الواقفين على مداخل المسجد الحرام، ورغم ذلك أخذت يد الطفل وتكفأت نحو الحرم، كانت أمواج البشر تتلاطم حتى قبل الاقتراب من ساحات الحرم، لم يكن من السهل اختراق ذالك السيل الهادر من البشر المتعطشين بصدق إلى تمريغ جباههم في أقدس بقعة من مساحة الكون المنظور

كانت الزحمة غير مسبوقة، فقد سجلت صفوف المصلين بالحرم المكي رقما قياسيا حيث وصلت منطقة "المعلاة" التي تبعد عن الحرم مسافة 3 كيلومترات. واصلت الزحف مطبقا على يد الصغير أغوص بين تلك الخلائق كما يغوص السَّقْنقورُ بين طبقات الكثبان الرملية.

بعيد أذان الجمعة الأول، وصلت ساحة الحرم حيث كان حراس البوابات والقائمون على تنظيم المصلين يتصدون لمحاولى اختراق الحواجز كما يتصدى السقاة لغرائب الإبل على بئر ضَهُول.

تقدمت على استحياء نحو أحد الحراس فقلت: هذا الصغير يريد أن يدخل صحن الكعبة، فقال باقتضاب: ممنوع، فقط من يرتدي أثواب الإحرام يمكنه العبور، وقبل أن أعلق قال بحزم : الله يرضى عليك لا تعطلنا، تجاوزت نحو حارس آخر فقال: (يا خويْ ما نقدر الكاميرات اتصور وانت مشْ معتمر وهذ مسؤولية)، كررت المحاولة مع ثالث فرابع، دون ان تتغير النتيجة.

توسمت الخير في احدهم من ذوى الرتب على ما يبدو، فتوجهت نحوه وقلت، لقد أتممت عمرتي يوم أمس، وأعلم أن النظام لا سيمح لغير المعتمرين بدخول المسجد، لكن هذا الصغير لا يعلم ذلك و يرفض المغادرة قبل النزول إلى صحن الكعبة والتقاط صور يغيظ بها بقية إخوته وزملائه في الروضة، تبسم العسكري وقال مخاطبا الصغير: هل حقا ترفض المغادرة وتصر على الدخول؟ فأجاب الصغير بنعم، فرد العسكري بالقول: ولكن الدخول ممنوع على غير من يرتدون ملابس الإحرام، وأنت ترتدي كندورة وأبوك يرتدي جلابية مخططة، هنا تغير وجه الصغير ذي الملامح الأندونيسية، فزَمَّ شفتيه و اغرورقت عيناه الصغيرتان بالدموع في مشهد أسقط قرار الضابط بالضربة القاضية فقال مداعبا الصغير: (خلاص لا تبكي حبيبي) وقال لي وهو يلتفت يمنة ويسرة: (يلا روح بسرعة گبل ما إشوفونك) جذبت يد الصغير وانطلقت أعدو دالفا المسجد من بوابة الملك عبد العزيز، وما إن صارت الكعبة رأي العين مني حتى أذن للجمعة وانتطمت الصفوف.

بعد صلاة الجمعة أسرعت الخطى أجر الصغير جرا نحو السلالم الموصلة إلى الصحن فنزلنا واقتربنا من الكعبة، ووثقنا تلك اللحظة التاريخية التي شهدت دخول غير معتمر إلى صحن الكعبة وتحققت خلالها رغبة الصغير "سعد"