قراءة في كف العالم / ‏ناجي محمد الإمام‏

جمعة, 01/12/2018 - 22:56

هم قيادة العالم :
بدون جدارة

تمهيد

إن من يعرف ، مثلي ، الغربَ و لا سيما "الأم الحنون"* فرنسا ، لابدّ أن يدرك أَمْرَيْن متجذرين في العقل الجمعي لهذه الحضارة الغالبة المتغلبة المُغالبة:

ــ المركزية الذاتية الطاغية عند ما يتعرض الغرب لهزة تمس أسس غَلبتِه بحيث لا يبقى للآخر مكان ولا يحسب له حساب لحظةَ طغيان تعصب اللاوعي .

ــ الحضور الأوحد للعامل اليهودي في رَأْيِ و فعلِ و فكرِ الغرب و سيطرته المُحكمة على المنظومة التي تتبادل الحكم في اللعبة الديمقراطية المضبوطة مقدما. 
و من يستوعب هاتين الثابتتين الغربيتين ، مثلي ،لا يمكن أن ينتظر انصافاً ولا عدلاً من هذه المنظومة الحاكمة ولا حتى حدوث تغيُّر في مستقبلٍ معقول لصالح أي قضية أخرى.

الهيمنة بالتنميط

لقد استطاعت "الحضارة المسيحية/اليهودية "* أن تهيمن و تُنَمِّطَ العالم على مقاسها لتحكمه ب"نعومة" بعدما طوَّعته بقسوة لم يشهد لها مثيلا في تاريخه الحافل و تغلبت على كل ما عداها واستوعبت دروس حروبها الداخلية ولا سيما ما اصطلح على تسميته بالحربين العالميتين* حيث حسم الصراع العقدي بين المعادين لليهودية الذين كانوا يعتبرون "المرابي*" اليهودي أُس البلاء وبين المساندين لها الذين يؤمنون بأن الحضارة المبنية على العهدين الأول*(التوراة) والثاني*(الإنجيل) هي حضارة واحدة أو متكاملة رغم سوابق "الصَّلب*" و "المحرقة*" و"التكذيبيين*" وهي متغلبة وعليها أن تحكم القبضة على الكون ولا سيما الحضارة الوحيدة النقيضة "القابلة للتصدير"*. 
وبعقول باردة عالمة نسجت الحضارة المسيحية/اليهودية شبكة من المفاهيم و القيم" الإنسانية" في مطلق ظاهرها المُعدَّة بإحكامٍ لوضع "الآخر"، بفعل تخلفه الفكري، في تناقض مع " الحرية " و"العدل" و"المساواة" ،ليسهل اصطياده كلما أثخنته المظالم " الناعمة" المكتوبة على جبينه، مضافة إلى سيطرة المال والعلم و التقانة و القوة الغاشمة المكنونة في ملفات الأحلاف الإنتاجية و العسكرية و"الذهنية".

النصف المشاكس

لقد استتب لها الأمر أيما استتباب بعد تحطم وتفكك بقايا "نصفها" السوفياتي* الإلحادي المشاكس .
هذا المكسب الاستراتيجي جعل مركز النبض المسيحي ينتظم ويتوحد لأول مرة منذ انتصار الكثلكة بسقوط غرناطة و الحروب الصليبية، وبدأ الإطباق على "مناقضها" الإسلامي رغم خَوَرِه و تفتته و تشرذمه سياسيا و اقتصاديا وثقافيا ، استباقا لأي إمكانية لنهوضه في مقبل الزمن.

التفريغ ثم الشحن

من ما تقدم تتضح،جوهريا سيطرة المنظومة الصهيو/غربية، ليس على أسباب القوة "الخشنة" على العالم ، فتلك مُسلمة كالشمس رابعة النهار ،بل على أدوات "الغزو الفكري" الذي حقق لها بالقوة "الناعمة" السيطرة شبه الكاملة على ما أعَرِّفُه بــ "الحمولة والحامل" :

*الحمولة: و تعني حالة السيطرة الذهنية على المدركات لتصبح بديلا عن الإنتماء لأي فكر وطني أو أممي أو ديني ذي رسالة مجتمعية ومرجعية مبدئية. إنه ( الاحتلال الذهني بالغ النعومة) ،و هو أروع وأذكى وأنضج نجاحات المنظومة الغربية وأنجع أساليب احتلال (الآخر) جوانيا بالاستيلاء على أدوات تحليله للأشياء و وسائط تشكيل انطباعه عنها حيث تنتفي خصوصياته و تتحلل أسباب مناعته ليفقد ـ بالنتيجة ــ دواعي ووسائط تشكيل الرأي إلا من خلال آليات المُحتَل الداخلي الذي تلبَّسَهُ.

أمَّا الحامل: فهو "الإنسان المستلب" وغايته أن يخلق وينمي أجيالا متجددة متصاعدة التكاثر، من العالم الثالث، والاسلامي العربي خصوصاً، تفكر من خلال "حمولة تَعلُّميَّةٍ" دخيلة بآلية تحليل ذات مقاييس لقيطة مُنْبتَّة من تاريخ شعبها و آلامه و آماله، لذلك تجدهم يساندون الاحتلال والاستبداد ويضربون في الأرض بحثا عن مواقع يخدمون منها رؤية الأجنبي ومشاريعه بحماس (المؤمن المُستجِد) لأنها وسيلتهم لتحقيق مجتمعهم المثالي المنتظر.

ومن خلال هذا العمل التربوي ،الذي تشترك فيه جميع أدوات و أجهزة ومعدات الترسانة "الناعمة" من القمر الصناعي الرقمي إلى تقنية الصورة المعدلة، تراجعتْ المرجعية المعتدلة في كل المذاهب ،ويخطط لها أن تختفي تدريجيا ، لتحلَّ محلها "حالة الإمَّعَة المُسْتَلَب" و إلا فالبديل عنها ،المطلوب ، هو "التطرف الديني" و تمهيد الطريق أمامه وتهيئة مناخه بالصراع الديني المذهبي و الطرقي و العائلي وغيرها من الصراعات الداخلية ..

من المستهدف بهذه الترسانة و لماذ؟

في كتابه "الحرب الحقيقية" يُقِرُّ أحدُ أكبر صانعي الفكر الاستراتيجي الاميركي المسيحي المتصهين نيكسون ما مضمونه ان الصراع الأساسي في العالم قائم و لا بد منه ـ بطبيعة الاشياء ـ لكنه قائم ــ لا مفــرَّ ــ بين الحضارتين الكونيتين الحاملتين لرسالات سماوية القابلتين للتصدير و هما ،و التعبير منه :"الحضارة المسيحية اليهودية " و "الحضارة العربية الإسلامية"، معتبراً أن الحضارة الصينية غير قابلة للتصدير، و لا تشكل تهديدا ما لم تتحول مذهبيا وذلك خارج الإحتمال...
و قد كانت تسمى في الوثائق القروسطية "إمبراطورية الوسط".
ولعلي أزيد عليه بأن الحضارات الأرضية الكبرى ليست عدوانية بدوافعها البَدْئية كحال أمم الهند و اليابان و الصين التي تتميز بالحفاظ على هويتها واحترام هوية الآخر لانتفاء الغاية التبشيرية.

أمثلة :اليابان .الهند.و الصين

مِمَّ يتوَجَّــسُ الغرب؟؟

قيادة العالم المؤقتة...

يمكن اعتبار العالم منقادا ــ حتى الآن ــ بقانون القوة لمشيئة المعسكر الغربي المعرَّف من ذويه بانتمائه للحضارة اليهودية/المسيحية (La Civilisation Judéo-Chrétienne) وإن تفاوتتْ درجة الانقياد بنفس القانون وبالتناسب الطردي بين أقطاب النمور الآسيوية و التنين الصيني العملاق.

الثنائية...

تبرز هنا ثنائية القطبية الاقتصادية التي تلوح في أفق منتصف القرن الحالي بين "التنين"الصيني و "الباز الأصلع"الأمريكي ، مما لا يمكن حصر مفاعيله الآن بسبب غموض مطامح الأول، وشراسة تشبث الثاني ، فإنْ استعاد التنين عقيدة الحزب الشيوعي الأممية التي وضعها في الثلاجة طيلة سني العبور إلى الريادة ، فحيَّ على صدام أكيد قد يتشكل على إثره العالم في طبعة جديدة كليا..أما إذا لحقته "مركزية الوسط " الموروثة واكتفى بمُلك أطرافه لتأمين بطنه الرخي الرخو، فسيكون نموذجا أكبر "ليابانٍ"مختلفٍ مُهابِ و مَهيبِ بدون شروط "الإستسلام المذلة" التي قيدتْ إلى الأبد إمبراطورية "ابن الشمس" ... 
و بالنظر للتراكم المتحصل عليه عند الغرب فلا خوف في المستقبل المنظور لديه من التنين.

الحالة النموذج

إن حالة "امبراطورية الميجي" جديرة بالتأمل ولكنها ليست قابلة للإستنساخ حتى من الجوار الآسيوي المباشر. 
لقد انبعث هذا البلد من رماد هزيمته المذلة أمام أعتى قوة استعمارية تستخدم أخطر وسيلة للدمار اخترعها الإنسان الغربي وألقاها بدون ضمير، على هيروشيما و ناغازاكي ...عندما لملم الامبراطور و شعبه ـ بكبرياءـ شعث أحزانهم و انتقموا من الزمن وفقا لشروطهم العاقلة ، فكان سؤالهم الأول لرفع التحدي: 
ــ بأي لغة سندرس "العِلم" الذي هَزَمَنا و "العالِم " الذي انتصر علينا؟ وكانت خلاصة تفكير خبرائهم: 
ــ لو أنفقنا الزمن في تعلم لغة المنتصر لضيعنا فرصة اللحاق به، في تهجي حروفه و تعلم أبجديته ولن نضمن استيعابها .. وكان القرار بانطلاق حملة متزامنة ثلاثية الأبعاد هي: الترجمة و الإصلاح اللغوي و ترميم الحطام المادي و النفسي". 
وانطلق الإقلاع الشامل القومي النهضوي ذاتي الدفع و الغاية و به ضمن الغرب ُ أن لا خطر منها.. 
وقد كان درسها مفيدا ، في خطوطه العامة ، للإنسانية ، من حيث التشبث بالشخصية القومية و الإصرار على نتيجة الانجاز، ولكن الجنوب الشرقي الأسيوي البوذي كان الأكثر استفادة منه ، بحكم القرب الجغرافي و القرابة الدينية و العرقية .

الهند...

و تبقى الهند و عالمها مجالاً حيويا للحضارات المجاورة العربية الفارسية / الاسلامية من الغرب، و البوذية /الصينية من الشرق، يعتريها ما يعتري هذين العالمين من نهوض ونكوص . ولا خطر منها بل عليها...

الروس..

وتظل امبراطورية القياصرة الروس عظيمة و خطيرة مختلفة بشرقيتها الأرثوذكسية و أبجديتها السيريلية عن الغرب، مؤتلفة معه بصليبها الطاغي المتحكم ، يعتريها حالةَ القوة شيطانُ التمدد القيصري ، و ينتابها حالةَ الإرتكاس الإنكماشُ الحذر..

و نحـــن....

أما وأن مستقبل البشرية، بالتحليل الإستشرافي العلمي المستند إلى معطيات صلبة ،هو ما لخصناه فوق ، فما الذي يدفع هذه القِوى العظمى وعلى رأسها الغرب إلى تصنيف العالم العربي الإسلامي العدو الأول ،و ربما الأخير ، لحضارته الطاغية و مُثُله المنتصرة ،رغم التشتت و التخلف و التناحر والفقر والجهل الذي تتخبط فيه الأمة منذ مئات السنين بفعل تراكم الهزائم أمام نفس الغرب "المسيحي" في حروبه الصليبية ، والإستعمارية و اليهودية في فلسطين و الشام، فما الذي يمكن أن يفعله هذا الركام و أي خطر يمثله على سادة الكون؟
إن المشروع الأول و الأولوية القصوى منذ سقوط غرناطة إلى اليوم و إلى ما شاء الله هو إبقاء هذا الخصم اللدود تحت الصفر و الثأر الدائم من جثته المحنطة و قلبه العربي الذي يأبى التوقف عن النبض..

لماذا يقبل من كل أمة أن تنتشر أو تنكمش و من كل حرف أن يكتب و يطبع و يكون مفتاح نهوض لأهله إلا هذا القلب العربي الإسلامي الصاحي رغم جسمه المريض؟
عندما تُقبل من الأمة التركية التوبة عن ماضيها مقابل لبس القبعة وتحريم العمامة ،بالقانون ، و استبدال الحرف اللاتيني بالحرف القرآني العربي ، و يُقَدم على موأئدها الرسمية ـ تحت طائلة القانون ــ النبيذ ، فإنها تستبعدُ من الإتحاد الأوربي لأن شعبها اختار حزبا "ذا خلفية إسلامية" بعد سبعين سنة من تزوير إرادته ،لأن الدولة التركية ،بذلك،تكون قد عادتْ لأحد ركنيْ أسباب العداء فعادتْ مفاعيله. 
و عندما تتمسك الثورة الإيرانية بحرفها القرآني العربي و تستبدل الشاه و صولجانه الشاهنشاهي بعمامة سيد فقيه وتطرد سفارة الكيان الصهيوني وتدفع بمفاتيحها إلى ممثل الشعب الفلسطيني الجريح ياسر عرفات، و عندما تقرر أن تجمع أسباب النهوض و القوة فإن الأمة الإيرانية التي كانت قاعدة الدركي الغربي الأكبر ، تكون قد استكملت أسباب العداء... 
أما حيازة العداء في أجلى صوره فهو نموذج غزة أو بنت جبيل أو طرابلس أو دمشق أو بغداد أو أطفال الحجارة...
إن أكبر دليل و أدعاه للتأمل ــ في حقيقة العداء الغربي لكل ما هو عربي مُسلم و هوسه وهلوساته المرضية منه ــ يتلخص في منظر مسرحية قادة العالم الغربي و السائرين في فَلكهم و هم يتظاهرون مشيا على الأقدام ، كعمال "بيجو/سيتروان" أيامَ السبعينيات في شارع الجمهورية بباريس .و حكومة هولاند تعلن حالة "فيجي بيرات" القصوى في عاصمة التنوير و التعمير باريس أم الفكر و الفن وما وراء البحار من "بابيت" في المحيط الهادي غربا إلى "فور دَ فرانس" في أقصى غربي المحيط الأطلسي ، و فرائصها ترتعد هلعاً و خوفا و تنديدا و فرَقاً من شابيْن فرنسيين من أبناء الأحياء الباريسية البائسة الساخنة انتقما ممن تطاول على نبيهم جهارا نهارا وأساء إلى عقيدة ملياري مسلم في العالم و خمسة ملايين مسلم فرنسي كامل الإنتماء و الحقوق في وطنه "الفرنسي الديمقراطي جدا"..
فهل هو الخوف المتوطن في النفوس أم العداء المستوطن في القلوب أم استعداء العالم الغربي على كل ماهو عربي إسلامي ..؟
إنه كل ذلك و أكثر...

العدو الثابت والثأر النابت المتحكم في الضمير الجمعي الغربي الوحيد المنافس الذي تحيَّنُ له الخِطط وتسلح لصده الجيوش ، في كل حين ، هو خيال هذا المارد العربي المسلم ...والفزع كل الفزع من ظله ...

فكيف السبيل إلى الصحوة/ الثورة الكبرى التي حشدَتْ لشبحها الحشود في "ميدان الباستيل" وراء قادة "قيادة العالم التي لا يستحقونها"...