لا بُدَّ لكلِّ إنْسان أنْ يَكونَ فاقداً أو مفقوداً، عبْر رحْلة الحياة فوق هذه الأرض، فـ«كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» غيرْ أنَّ إحْساسَ الشاعرِ بالفِراقِ، وبالفقْد، يَتناسَبُ طرْدياً معَ رَهافةِ حِسِّهِ، المُضاعَفَةِ عشَراتِ المرَّات فوْق إحْساسِ الإنْسان العادي، فهو لا يَسْتَحِقُّ اسْمَ الشاعر، إلا إذا كانَ يشعرُ بما لا يشعرُ به غيْرُه، ومنْ ثَمَّ يعبِّرُ أيْضاً بما لا يعبرُّ به غيْره.
وهكذا، أجِدُني اليوْمَ في ظلِّ فقْدِي لآخِرِ أشِقَّائي يوْم الأربعاء الماضي، لا أنْساقُ للكتابةِ في أيِّ سِياق غيْر اسْتِرْجَاعِ لَحَظَاتِ نزِيف فقْد الأحِبَّةِ، الذي ابْتلانِي به الله، لأنه مَنَّ علي بالبقاء حيًّا، فوَجَدَنِي- بفضْله- من الصابرينَ، له الحمْدُ، وله الشُّكْر، علَى ما أعْطي، وعلَى ما أخَذَ، غيْر أنَّه «لا بُدَّ للمَصْدُور أنْ يَنْفُثَ»، وهل تكونُ نفْثةُ الشَّاعِر المَحْزُونِ إلا شِعْرًا؟
كانتْ بِدايةُ نَزيفِ فقْدِ الأحِبَّةِ- بالنسْبة لي- عامَ 1973؛ حيثُ فقدْتُ أمِّي، وَكنْتُ صغيرًا، فكبرْتُ أنَا والشِّعْر، وظللنا- معًا- نَبْحَثُ عنْ كلِمَاتٍ تعبِّرُ عنْ إحْسَاَّسِي بفقْدها، حتى قلتُ، بعْد ثلاثين سنة:
أمِّي.. نَشيدُ الكوْنِ.. مِلْءَ المَـــــسْــمَعِ
هِبَةُ السَّمَا.. لِلأرْض.. سَــعْدُ المَطْــلعِ!
وأنَا.. بِـلاَ وَطَـنٍ.. سِوَى أحْضَــانِهَا
مَنْ ذا يُحَدّدُ- فِي الخَرَائطِ- مَوْقِعِي؟!
ما يُتْم ُأمّي.. غيْر يُتْـمِ الأرْضِ.. إنَّـ
ـهُمَا - مَعًا- أُمَّـايَ.. مَرْجعُ مَرْجعِي!
إنِّي اكْتَهَلتُ.. وَمَا يَزالُ بدَاخِــــــلِي
طِفْلٌ.. يَرَى أمِّي -الَّتِي مَاتتْ- مَعِي!
ثم كان فقْد أبي 2004، بعْد تَنَاثُرِ عدّةِ أقْمار منْ أسْرَتِنا، وأنا بعيدٌ في غُرْبَة التعْليم العالي، فصحْتُ:
يُغالِبُ صبْري الحُزْنَ.. والحزْن غالِبي
وكيْفَ اصْطِباري.. بعْدَ كلِّ مَصائِبي؟!
أنَا الجَبَلُ الرَّاسِي.. تَمُورُ.. بأضْلُعي
أعاصيرُ.. لا يَنْهَدُّ منْهُنَّ جانِبي
ولكنَّما قلْبي قد أوْهَتْ شِغَافَه
«عَصائِبُ-(حُزْنٍ)- أُعْقِبَتْ بَعَصائِبِ»!
فلّمَّا نَعَى الناعِي أبِي الآنَ هَدَّنِي
فصحْتُ- ولَيْلِي نَابِغِيُّ الذوَائِبِ:
«كِلِينِي.. لِهَمٍّ.. يا أُمَيْمَة.. نَاصِبِ
وليْلٍ.. أقَاسِيهِ.. بَطِيءِ الكوَاكِبِ»
وفي سنة 2012، كانَ فقْدُ شقيقي الأكبر.. أبِي بعْد أبويَّ.. «المُرَابِطُ»، في ثُغُورِ المَعارف والمَكارم، وهنا -فعْلا-:
رأيْنا السّما.. كادتْ على الأرْض.. تُطْبق
وحَشْرَجَت الأنفاسُ.. تَخْنِقُ.. تَخْنِقُ
ودارتْ بنا الأفـــــــــلاكُ.. لحْظةَ نَعْـيِه
فَحِرْنـــــــا.. أنَنْفي مَوْتَه؟ أمْ نُصَدِّقُ؟
وعُذْنا بـ«طُور» الصّبْر.. فانْهَدَّ.. لوْعَـةً
وكلُّ «كَليمٍ «.. يَوْمَ ذا الرُّزْءِ.. يُصْعَقُ
وقدْ فَجّرَتْ «طــــوفانَ نُوحٍ» عُيــــونُنا
فَنَحْنُ ـ مَعَ «الجُودِيِّ» و«الفُلْكِ»ـ نَغْرَقُ
وقدْ سَعَّرَتْ «نارُ الخليل» قُلـــــــــــوبَنا
إذا دُعِيتْ: «بَرْدًا.. سَلامًا»..تَحَــرَّقُ
ولمَّـــا هَزَزْنـــا جِذْعَ كُــــلِّ قصـــــــيدةٍ
تَساقَطَ سِحْرُ الشِّعْر.. يُرْتَجُ.. يُطْـرِقُ
وُجُومًا.. أمامَ الخَطْبِ..قدْ غامَت الرُّؤَى
وضاقَ مَجــالُ القوْل.. فالصمْتُ يَنْطِقُ
لقدْ ماتَ رَبُّ «الضادِ».. سَيِّدُ حَرْفِها
وبَحْرُ العُلـــــــومِ.. الأَعْمَقُ.. المُتَدَفّقُ
تأبَّطَ مِنْهُ القبْرُ مَشْـــــــــــــــــــروعَ أُمّةٍ
تَمَـــــثَّــلَهُ.. فَرْدًا.. وعـــــــاشَ يُحَـقّـقُ
وبعْده تسارَعَ انْتِثارُ عقْد أشِقَّائي، ففِي 2014، فقدْتُ الدكتور الفيلسوف: «حَمَّ»، فوَلْوَلَتْ قصيدتي:
أخِي.. بِمَوْتِكَ.. مَاتَ الصَّبْرُ..ف ِي خَلَدِي
أيَا يَدَ اللهِ..شُدَي-رَحْمَةً- عَضُدِي
أوَّاهُ.. هَا كَبِدِي.. مَنْزُوفًةٌ.. ألمًا
دَمْعًا.. عليْكَ.. أخِي.. يَا «حَمَّ».. يَا كَبِدِي
سَرَتْ بِنَعْيِكَ.. مِلْءَ الجِسْمِ.. زَلْزَلَةٌ
مَهْمَا تَجَلَدْتُ.. لا يَقْوَى لَهَا جَلَدِي
بَيْنَ الجَوَانِحِ إعْصَارٌ.. أكَابِدُهُ
يَا وَيْلَتِي.. «خُلِقَ الإنْسَانُ فِي كَبَدِ»!
ثم فقدت مستهل 2017، توْأم َروحي، شقيقي:
سيدي أحمد البكاي؛ فتضرعتْ قصيدتي:
أمْطري.. يا فُـــيــــوضَ رحْمةِ ربـي
جدَثا.. حــلَّ فِـــــــــــيــه فلْذةُ قلـــْبي!!
إنَّ حُــــبّي.. تقـــاسَمَــتْهُ.. قُبُــــــــورٌ
فهُـــنا.. هـــا هُنا.. هُـــنالكَ.. حُبّـــي!
رَبّ.. رُحْمَى.. بمَنْ أخذتَ منَ أهْلي
وبمَنْ قـدْ أبْقــيْتَ.. لًطْفَكَ.. رَبّــــــي!!
وأخيراً فقدت- قبل ثلاثة أيام- شقيقي الأكبر مني مباشرة: سيد محمد، وما زلتُ لمْ أجدْ مَرْثيتَه المُناسبة، لمَعْرِفَتِي بِسُمُوِّ ذوْقِه الأدَبِيِّ، وصَراحَتِه في النقد الشعْري، لدَرَجَةٍ ربَّما أسْمَعُ صوْتَه يُؤنِّبُني، من تحْت القبْر- برَّدَ اللهُ مثْواه- لوْ كتبْتُ فيه ما ليْسَ على مُسْتَوَاهُ، ولا مُسْتَوَايَ عنْده.. لذلك اسْتَعَرْتُ في تأبِينِه.. بعْد بقية إخْوتي.. قوْلَ الشاعر القديم:
أبَعْدَ بنِي أمِّي الذينَ تتابَعُوا*
أُرَجِّي الحَيَاةَ أو منَ الموْتِ أجْزَعُ?
أولئك إخْوان الصفَاءِ.. رُزِئْتُهُمْ
ومَا الكَفُّ إلا إصْبعٌ... ثمَّ إصْبعُ
أجَلْ.. إنَّ إيماني بأنَّ نزيفَ الفقْد.. لنْ يتوقَّفَ دُوني... جَعَلَنِي اسْتَبِقُ مَوْتِي بكِتابَةِ مَرْثِيتِي لنفْسي.. 2012، مُدْرِكا أنَّنَا جَميعا نعيشُ تحْتَ مَشِيئةِ الله.. بيْن الجَبُروت.. والرحَمُوت:
للهِ.. جَلَّ جَلَالُهُ.. الجَبَرُوتُ!
فِينَا.. يُصَرِّفُ فِعْلَ: مَاتَ.. يَمُوتُ!
لَكِنَّه- أيْضا- يُصَرِّفُ.. رَحْمَةً
أحْيَا.. وأنْعَمَ.. دَامَتِ الرَّحَمُوت!
أطال الله بقاءكم في عافية.ذ
المصدر: الوطن