دخلت الخالة.. تفحصت الساحة بحثا عن جميلة.. رأتها فاقتربت منها وأمسكت بيدها وقالت لها:
- اتبعيني.
- إلى أين وما ذا تريدين مني.
- إلى المنزل، وستعرفين هناك.
- انتظري حتى أريهم مواضع نصب الخيام.
- سوف نجد من تريهم مواضعها بدلا منك.
قبل أن تخرجا من باب الحوش المخصص للحفل مدت الخالة يدها إلى جبهة جميلة وجذبت حافة الملحفة التي تغطي رأسها وأنزلتها حتى سترت جبهتها، وقالت لها:
- دعيها هكذا..
اضطربت لما فعلته خالتها.. هل سيزوجونها هي الأخرى في ذات الليلة.. العروس وحدها هي التي تؤمر بتغطية وجهها.. استبعدت ذلك فلا شيء يدعوهم إلى الاستعجال، ومن التي ستشرف على زفافهما معا.. لن تتقن أية امرأة غيرها تنظيم حفل زواج زينب.. كم تخيلت هذا اليوم وخططت في ذهنها تفاصيله الدقيقة.. كم راقبت حمرة الخجل المخلوطة بفرح خفي على وجهها حين كانت هي تشرح لها تلك التفاصيل الدقيقة، فتعلق زينب:
- لا يذهبْ خيالك بعيدا.
لكن الحلم تحقق.. ها هي زينب تظفر برجل ثري.. ليلة الأمس حين جلستا لوضع تفاصيل الحدث لم تكن زينب خجولة ولا مترددة، بل كانت جادة وحددت معها كل شيء فكيف تترك ذلك لغيرها.. كيف تعطيهن فرصة التشويش على زواج أختها وجميعهن حاسدات حاقدات حتى ولو أظهرن الود.. كيف يمكن أن تتزوج هي من غير أن تكون زينب هي منظمة زواجها، وقد كانت تقول لها دائما:
- زينب، أنا لا أريد حفلا عاديا.. أريده ذكرى تبقى إلى الأبد في أذهان من سيحضرونه.. أريده أمنية دائمة في نفوس النساء، تتقطع أنفاسهن غيظا ويأكلهن الحسد لأنهن لم يستطعن تحقيقها.. استخدمي تفكيرك العبقري منذ الآن ولا تقف الفلوس في وجهك، فكل ما تطلبينه منها سيكون لديك يوم العرس.
حاولت أن تطرد من ذهنها فكرة أنهم يريدونها للزواج، وعبثا بحثت سبب آخر لتلك الطريقة التي تصرفت بها خالتها.. احتارت بين أن تستسلم لها نهائيا أو أن تمتنع عن مجاراتها حتى تعرف ما الذي يجري.. لم يكن بيت أسرتها بعيدا من الحوش الذي اتخذوه للحفل، لكنها توجست مما ينتظرها هناك.. تعمدت أن تتباطأ، فنظرت إليها خالتها وقالت:
- ما لك، أسرعي..
- ما ذا تريدون بي.
لم تنظر الخالة إليها لكنها أحست بالحزن في نبرتها حين أجابتها:
- لا أعرف.. أمك ستخبرك.
اصطخبت الهواجس في نفسها.. سرى إليها خوف مشوب بغضب فقررت أن تتوقف، وأزاحت الخمار عن وجهها، قالت لها خالتها بحدة:
- هيا، لا تجعلي المارة يتفرجون علينا وأنا أشدك كأنك مجرمة.
- ليس قبل أن أعرف ما ذا يراد مني.
أسرعت إليهما إمرأة من جيرانهم يبدو أنها كانت تقف على الباب انتظارا لقدومهما.. كانت قوية وطويلة.. خمنت جميلة نية المرأة فبادرت بالجلوس.. انتبهت خالتها إلى أنها أزاحت الخمار عن وجهها، فمدت يدها وردته عليه، وحين اقتربت منهما المرأة خاطبت جميلة قائلة:
- إما أن تسيري معنا وإلا فسوف أحلملك كما يحمل الطفل.
- يجب أن تخبروني أولا، لماذا تذهبون بي هكذا..
- يا بلهاء، العروس لا تكثر من الكلام ولا العناد.
نظرت إليها مستنكرة، ثم نظرت إلى خالتها التي كانت تعابير وجهها تطفح بالهم، وسألتها:
- ما الذي تقوله؟
- لا شيء، هيا بنا.
- لن أذهب معكما
هوت المرأة لتمسك بها، وهي تقول:
- إذن، سأحملك.
- لا.. انتظري سأرافقكما.
لم تجد بدّا من الانصياع لهما، وقامت تترنح بينهما.. تأكدت الآن أنهم يريدون أن يزوجوها.. أرعبها إصرار خالتها على كتمان تلك الحقيقة عنها.. تذكرت ذلك الحلم القديم الذي رأت فيه نفسها وهي تركب على ظهر رجل قوي يسير بها حتى يدخلها دارا واسعة مجهرة بفرش فاخرة وآنية غالية، ثم ينزلها دون أن يوليها وجهه، ويقول لها هذه دارك فتصرفي فيها على هواك، فكانت لا تتحرك في اتجاه إلا وصرف وجهه في الاتجاه المعاكس.. أطبقت بيديها على رأسه ولوت عنقه في اتجاهها فإذا وجهه وجه كلب، فنفضت يديها منه وولت هاربة وهي تصيح.. يومها قصت الحلم على خالتها فأمرتها أن تستعيذ بالله وأن لا تقصه على أحد.
اقشعر بدنها وارتجف قلبها لتلك الذكرى، وقالت لنفسها:
يا إلهي، ما هذا الغول الذي سيزوجونني له.. لو كان رجلا سويا لما كانت خالتي حزينة وصامتة إلى هذا الحد ولكانت أخبرتني بالتفاصيل فورا.. ليست هذه طريقة القاسم فهو شاب منطلق، وقد تكونت بيني وبينه شبه صداقة خلال المرات التي زرت فيها عيادته للعلاج.. لو أرادني لكان جاءني بنفسه أو بعث إلي إحدى أخواته.. ربما محمد الأمين!. لا.. لا يعقل أن يكون هو.. لن ينافس أخاه الأكبر في ليلة زواجه.. يقال إنه بعد زواجه الفاشل من ابنة عمه قرر أن لا يتزوج إلا عن معرفة وتفاهم، فكيف يتزوجي وهو لا يعرفني معرفة مباشرة.. منْ آخر غير هذين.. لا أحد.. كل رجالنا يعرفون أنني لست مستعدة لفقير يضطرني إلى أن أكدح معه، بل أريد رجلا جاهزا يوفر لي دارا مجهزة ومستوى من المعيشة معقولا.. هكذا كنت أرد على الذين يبعثون لي بطلبات أو يخاطبونني مباشرة.. يا ويل أمك يا جميلة.. وجه الكلب لا يبشر بخير.. لم يفارق خيالي طيلة هذه السنين.. كنت أتخيله يطاردني من غرفة إلى غرفة حتى أسقط مغشيا علي فيقف فوقي ويبدأ بنهش لحمي.. لعله رجل متزوج ويرغب في زواج سري.. لكن أبي لن يقبل بذلك، ولا أنا سأقبل به.. لست عاهرا ولا عانسا يائسة.. حين علم الأمجد أني تشاجرت مع زوحته وتوعدتها بأني سآخذه منها طمع فيّ، فبعث إلي يريدني زوجة ثانية فرفضت.
كانوا على وشك الدخول إلى منزل أهلها حين قفز إلى ذهنهنا مشهد عبد الله عريس زينب، قبل ساعة، وهو واقف بباب الحوش يتأملها ويتحدث إلى أخته فاطمة.. شهقت وتهاوت، فانتشلتها المرأة، وأقامتها واقفة، وأقبلت عليها خالتها مذعورة.. نزعت الخمار عن وجهها، ومسحت عنه العرق ثم أخذت تنش عليها الهواء بطرف ملحفتها.
لا تعرف جميلة كم من الوقت قضاه عبد الله يتابع حركاتها وهي تشرح لصاحباتها خطة بناء الخيام في الحوش، فقد دخل دون أن تحس به ولقي فاطمة عند الباب فوقف يحدثها.. لم تنتبه لوجوده إلا حين همست في أذنها صديقتها بأن رجلا على الباب يتابع حركاتها باهتمام منذ وقت، ويشير نحوها بيده ويهمس لإحدى قريباتها بشيء.. التفت فرأت رجلا يميل رأسه ليسمع همسات امرأة واقفة بجانبه تبينت أنها فاطمة.. حجبت نظاراته السوداء اتجاه بصره، لكن جبهته كانت مسقرة في اتجاه جميلة، فقدرت أنه يتابعها بعينيه.. ظنته محمد الأمين، لكنه بدا أقصر قليلا، وكتفاه أعرض.. كان يلبس درّاعة فخمة مزركشة الجيب والرقبة باحتراف، تلمع جدة بياضها تحت شمس الظهيرة، وقد رتب كمّيها على كتفيه فحسرت عن ساعدين قصُر كمّ القميص عن أن يسترهما فبرزا غليظين أشعرين.. ثبتت نظراتها عليه غير مبالية إن كان ينظر إليها أم لا، فلعبة العيون سلاح خبرته جيدا وعرفت دائما كيف تستخدمه.. لم تكن تلك الملامح غريبة عليها.. حاولت أن تتذكر صاحبها.. حين تنبهت إلى شعر رأسه الأسيل الكثيف المخلل بالشيب انتفض قلبها واستدارت مذعورة.. ابتعدت بخطى مرتبكة.. أعملت يداها بتشنج في طرف ملحفتها لتحكم به تغطية رأسها وأسبلت جزءه الأسفل على ساعديها.. كان كل جسمها يرتجف.. ماذا سيقول عنها.. ما ذا سيقول الآخرون عنها، وقد بلغت بها الجرأة أن تتحدى بنظراتها أكثر الرجال هيبة وأهمية في عشيرتها.. كيف ستقابله حين ينتهي الحفل ويصبح زوج زينب.. أخذت تلوذ بالعمال والنساء لتختفي عن نظراته.. لم يكن في ذلك الحوش الواسع من البناء سوى حمام في آخره أسرعت إليه ودفنت فيه جسمها، وأغلقته عليها، ولم تخرج إلا بعد أن أخبرتها صديقتها أن عبد الله قد غادر الحوش هو وفاطمة.
على باب المنزل استقبلتهن أمها وتسلمت يدها من المرأة.. في الصالة المقابلة للباب لمحت جميلة فاطمة جالسة تتحدث إلى إحدى النساء.. حدقت فيها حتى تأكدت منها ثم وضعت يديها على وجهها وأجهشت بالبكاء.. تركت الخالة رأس جميلة يستريح على كتفها، واتجهت بهما الأم إلى غرفة جانبية أغلقتها عليهن الثلاث بإحكام.
كان إحساسها يقول لها إن أمرا خطيرا يدبر لها هي وزينب.. لم يجرؤ تفكيرها على تحديده.. لكن ما حدث أثناء زيارة عبد الله للحوش.. واختفاء فاطمة التي كانت تساعدها في التنظيم ثم وجودها هنا كل ذلك غير مطمئن.. تمنت أن لا تفتح أمها شفتيها وأن لا تخبرها بشيء أو أن تصاب هي بالصمم فلا يطرق سمعها ما ستقوله لها.
نظرت الأم إلى الخالة تستنجد بها فخاطبت الخالة جميلة قائلة:
- لماذا تبكين.. أنت لا تعرفين حتى الآن لماذا أتينا بك.
أجابتها من خلال نحيبها:
- لا أريد أن تخبروني بشيء.. لا أريد سوى الذهاب لمواصلة ما كنت أقوم به.
قالت لها أمها وهي تتلعثم:
- اهدئي واستمعي إلي.. نحن.. لقد جدّ علينا أمر.. أو ينبغي أن نغير..
انتفضت فجأة واستوت واقفة أرادت أن تتخطاهما إلى الباب وكانتا تسدان طريقه وصرخت بقوة:
- يا ويلي منكم، لا أريد أن أسمع شيئا.. أين أختي زينب، ماذا فعلتم.. بها أريد أن أراها الآن.
أمسكتها أمها وهي تقول لها:
- استعيذي بالله من الشيطان واجلسي.
- أين أختي.. هل أصابها مكروه.. ماذا تخفون عني..
- أختك بخير.. اجلسي وستعرفين أين هي.
- ها قد جلست، قفولي لي ما ستقولينه دفعة واحدة.
جاءتها الطلقة قاصفة من خالتها:
- الحكاية باختصار هي أن عبد الله يريدك أنت وليس زينب.
حملقت فيهما بعينيها الواسعتين، ثم سألت أمها، بصوت مخنوق:
- هل تهزؤون بي أم تريدونني أن أجن.
قالت أمها بحزن وإشفاق:
- هذه أمور لا هزء فيها.. لقد قال إنه بعث يريدك أنت لكنه أخطأ الاسم، فهو كان يظن أنك أنت زينب.
- وهل هو رجل غريب حتى لا يفرق بيننا؟.. هل فاطمة لا تعرف زينب، وزينب قد تورمت يداها من كثرة ما حنتها وضفرت لها شعرها.
- فاطمة تعرفكما، لكنه هو لم يختلط بكما ولا يعرفكما عن قرب.. فمن الجائز أنه أخطأ.
فجأة توقفت عن البكاء.. مسحت أثر الدموع عن عينيها وتربعت في جلستها.. ونظرت إلى أمها باحتجاج:
- هل يرضيك أن تكون بناتك لعبة في يد رجل.. يأخذ منهن ويطرح كأنهن أوراق لعب.
- لا يرضيني ذلك، لكنّ الرجل لديه حجّة، وهو قد تقدم إلينا من قبل وأجبناه، ولا يمكن أن نتراجع.
- سأختصر عليكم كل هذا، أنا أرفض هذا الزواج.. ولن أناقشه.
قالت خالتها:
- هذا عبد الله..
- ولو كان الشيخ سيديّا.
طرق الباب وجاء من خلفه صوت أخيها.. وقفت الأم لتفتح الباب فوقفت جميلة بدورها، سألتها أمها:
- إلى أين؟
أريد أن أذهب إلى أختي لآتي بها من عند الحناية، وأنظفها من آثار هذه الكذبة، قالت لها أمها، مهددة:
- اجلسي مكانك، واعلمي أن ما كنت فيه من تسيب قد انتهى اليوم.. وستنفذين ما نقرره، شئت ذلك أم أبيت.
ارتدت إلى جدار الغرفة باكية بينما فتحت الأم الباب وخرجت فأحكمت الخالة إغلاق الباب بالمفتاح.. انحدرت جميلة مع الجدار حتى استقرت على ركبتيها، وأخذت في عويل حاد.. اقتربت منها خالتها وقالت لها:
- لا تهلكي نفسك بالبكاء.. ما حدث لا يعدو كونه خطأ.
أجابتها بنغمة يتخللها البكاء:
- بل قرارا متعمدا.. جريمة عن سبق إصرار.
- أنت تبالغين لأن الأمر يتعلق بزينب.. لكنّها فتاة عاقلة، وسوف تتفهم ما حدث.. سأذهب إليها بنفسي بعد قليل لأشرح لها كل شيء وآتي بها.
- فلْتقبله أولا تقبله.. لكنني أنا أذبح بسكين بارد ولا أقبله.
- لا تكوني غبية، فلا أحد سوف يقبل رفضك.. تذكري الفلوس التي يبعث بها إلى أبيك، والوظيفة التي حصل عليها لأخيك.. تذكري ما يفعله مع أعمامك ومعنا جميعا.
كيف تخون من أعطتها حياتها ورعتها في كل شيء.. كانت حين يجمد البرد القارس عضلات أطرافها ترمي حقيبة دفاترها على قارعة الطريق، فتلتقطها زينب ضاحكة، وتضعها على منكبها الأيسر، وتقول لها:
- يا غبية.. سيضربك المعلم ويطردك إن لم تحضري دفاترك معك.
ثم تمشي أمامها مترنحة تنوء الحقيبتان بجسدها النحيل، ولا تسلم لها حقيبتها إلا عند باب فصلها، حتى توهّم التلاميذ أنها خادمتها، وزاد الوهم أن زينب ورثت عن أبيهما السمرة بينما ورثت هي من أمهما البياض.. سنتان بينهما كانتا كافيتين لجعل زينب تنظر إليها دائما على أنها أختها الصغرى التي عليها أن ترعاها.. حين استدرجها الصبية الثلاثة إلى تلك البناية المهجورة، وكمّموا فمها وبدأوا بتجريدها من ثيابها برزت زينب كأنما انفقلت عنها الأرض وفي يدها عصا طويلة أعملتها في ظهورهم فتبددوا هاربين، ونفضت عنها التراب وهي تتفحص فستانها الممزق وتبكي لبكائها وتلومها:
- لقد حذرك ألف مرة من اللعب مع الذكور.
تعرف أن زينب تستطيع أن تتنازل لها بسهولة ورضى عن رجل كما كانت تتنازل لها عن ملاحفها وفساتينها، لكنها لن تضطرّها أبدا إلى ذلك.
ظنت خالتها أنها سكتت لتعيد النظر في موقفها، فاستحثتها:
- عليك أن تقرري بسرعة.. الليل يقترب ولن يعود لدينا من الوقت ما يكفي للصالون، كما أن أباك يريد رأيك الآن لأن موعد العقد بعد صلاة المغرب مباشرة.
فجأة انطلقت الخارج زغاريد دهشت لها الخالة وانهارت جميلة على الفراش وارتفع بكاؤها من جديد.. فتحت الخالة الباب وأطلت إلى الخارج.. رأت حركة نساء عند باب الصالة، أشارت إلى إحداهن فاقتربت منها، سألتها الخالة:
- ما هذه الزغاريد؟
- لقد بعث القاسم يطلب أن لا يغير شيء من إجراءات زواج زينب وأنه هو سيتزوجها.
- حقا! يا له من شهم.
- هكذا هو دائما.. تجدينه حيث تحتاجينه.
لم تستطع الخالة كبت دمعتها وهي تقول للمرأة:
- زينب لا تستحق إلا هذا.. لقد كدنا نطعنها في الظهر.
- صدقت.. وهو أيضا لن يندم على ما قام به..
لو تمنت جميلة في تلك اللحظة زوجا لأختها فلن يكون أحدا غير القاسم.. رغم أنها كانت من قبل تتمناه لنفسها.. أيقنت أنه لا يغسل عار الغدر بزينب سوى زواجها من القاسم.. هو الوحيد الذي إذا سمعت اسمه فستشكر عبد الله على تركها.. كانت الفرحة أكبر من أزمتها التي نسيتها للحظة وهي تستقبل خالتها مبتسمة من بين دموعها، وتعانقها بحرارة، وتقول لها معاتبة:
- كنتم ستقضون عليها.. لكن الله أنقذها.
تركتها تسترسل في عناقها وتبكي حتى هدأت نشوة فرحتها، فأجلستها وأسندتها إلى جدار الغرفة، وتأملتها ثم قالت لها:
- لقد حلت المشكلة.. ينبغي أن نذهب الآن إلى الصالون.
- قلت لك إنني أرفض هذا الزواج.
- لم أعد أفهم موقفك.. هل تضعين عينك على رجل آخر.
- لا.. أنت تعرفين أني لا أشغل نفسي بخرافات الحب.
- هل ترفضينه لفارق السن بينكما.
تبسمت ساخرة من تخميناتها.. تذكرت حين كانت زينب مرعوبة من فكرة الزواج من عبد الله، وكيف أقنعتها هي بأن الرجل الخمسيني الميسور كنز لفتاة في الثانية والعشرين مثلها، لأنه سيغمرها بحنانه وعطاياه ليثبت لها أنه يحبها، ولكي لا تشعر بالندم على الزواج منه.
- لا.. بل لأنه غدر بأختي وطعنني في كبدي.
طرق الباب وفتحت الخالة فدخلت أم جميلة متهللة الوجه، ولما وجدت أن الخبر قد سبقها إليهما قالت للخالة، وهي لا تزال واقفة:
- إذن خذي جميلة إلى الصالون، واتركي عنك زينب فقد بعثت من تأتي بها.
- أقنعي جميلة أولا.
- لن أقنعها.. عليها أن تقنع نفسها.. الناس ينتظرون ردنا منذ ساعتين ولن نؤخرهم أكثر من ذلك.
لم تتكلم جميلة، فوجهت إليها أمها خطابها:
.. ما ذا تظنين نفسك.. انظري في المرآة.. عبد الله قادر على أن يحشد مئات الفتيات ممن لا تبلغين كعب واحدة منهن في الحسن.
- ليتني ولدت شوهاء قبيحة تتخطاني العيون.
- وليتني مررت سكينا على لسانك، فلا أسمع صوتك.
اخترق الغرفة صوت منبه سيارة قوي ومتواصل.. عمدت الأم إلى حقيبة في ركن الغرفة فأخرجت منها ملحفة وقطع أثواب داخلية، دفعتها إلى الخالة وقالت لها:
- غيري لها ملابسها بسرعة.. السيارة في انتظاركما.
بسطت الخالة الملحفة وردت طرفها إلى الداخل وعقدت "خلاليْها"، ثم اقتربت من جميلة لتلبسها إياها فامتنعت وتكورت على نفسها، والتصقت بالجدار، قالت الأم للخالة:
- لا تتعبي نفسك.. سأستدعي أباها ليحسم معها الأمر.
خرجت فدوى صوت الباب في صدر جميلة كأنه انفجار كبير شتت روحها.. أخذ جسدها يرتعد.. تراءت لها العينان الغائرتان ببريقهما النافذ المخيف.. أحست بجسدها يذوب كقطعة ملح في قدر فائرة.. وأسنانها تصطك كأنها تلك الصبية التي فزّعت من نومها بضربة حارقة لتجلس في العراء في صبيحة قارسة وقد احتضنت لوحا تُزيغ رجفة جسدها بصرها الناعس عن أن يميز حروفه.. لا تذكر آخر مرة رفع عليها يده.. ربما منذ عقد أو يزيد.. كانت تحب تعاويذ المساء ويده الحنون المرطبة بنفثات ريق الأدعية تمسد رأسها وجبهتها، فتغمض عينيها وتسيح روحها في جنان السكينة.. تستمرئ ابتسامته المهيبة واستحالة بريق عينه إلى هالة وضيئة وهو يسمع نكاتها البريئة التي تجتهد في حياكتها لكي تسمعه إياها.. لكنها أبدا لا تتمنى مواجهة ذلك البريق في لحظات توهجه كأنه سكين تنغرس في فؤادها.. فكرت في أن تغافل خالتها وتهرب.. لكن إلى أين.. لن يجدي الهروب شيئا، بل سيزيد وضعها سوءا.
لم تكن في حاجة لصوت منبه السيارة القوي المتواصل كأنه منشار يشطر جسدها نصفين، ليزداد تشتت روحها وارتعاد جسدها، وتغوص في ظلمات الترقب المرعب كأنها تسقط في هوة سحيقة.. جاءها صوت خالتها كأنه قادم من عالم آخر:
- من الأكرم لك أن تذهبي الآن باختيارك قبل أن يأتي أبوك فتفعليها كرها.
لم يكن أبوها في المنزل فقد اختار في ذلك اليوم أن ينعزل عن حركة النساء وضجيجهن إلى منزل أخيه القريب.. لا بد أنه الآن قد وصل إن كانت أمها نفذت تهديدها.. كانت ترهف السمع لكل حركة أو صوت في الخارج.. تتوقع في كل لحظة أن يفتح الباب ويناديها.. لن تجيبه.. ستظل جبهتها مدفونة في هذه الحشية.. مهما حركوها أو ضربوها فستبقي جسدها مكورا متصلبا كجسد ناسك يموت وهو ساجد.. لن تعرف الحناية كيف تحنيها أو تضفر لها شعرها.. لن يجرأوا أن يزفوها إلى خيام العرس وهي على تلك الهيئة، وسيصاب عبد الله بالرعب حين يراها هكذا.
غرزت جبهتها في الحشية بقوة، وشدت عضلاتها ليتماسك تكورها أكثر وهي تسمع جلبة في الخارج.. انتفض جسمها بكامله حين سمعت الباب يفتح.. جاءها صوت أمها:
- قومي..
انهالت عليها تضربها وترفسها، هبت الخالة فحالت بين الأم وبين جميلة، وقالت لها:
- هذا حرام، ستكسرين عظامها.
- لا يشفي غليلي إلا أن أدفنها في التراب.
- اهدإي، هي عاقلة وتعرف أن مصلحتها في ما اخترتموه لها، وسوف توافق عليه.
- لقد انتهى الأمر.. أرادت أن تفضحنا وفعلتها.. علم عبد الله أنها رافضة للزواج فغضب، وبعث إلينا أنه لا يريد امرأة غير راغبة في الزواج منه.
أصابتها إحدى الضربات في جنبها الأيسر فأحست بها في قلبها، وانسد نفسها، فأصبحت تئن وتتلوى.. تفتح فمها وتطبقه بحثا عن نسمة هواء.. قبل أن يغمى عليها كانت قد التقطت أذنها الخبر
في مكان ما لم تتبينه بعد من ذلك الجسد الهامد كانت قطرة ماء صغيرة بثقل جبل من الجليد هي أول خيط إلى روحها العائدة من العالم البعيد، وكغياهب عقل رضيع في أشهره الأولى رفعت يدها بصعوبة كأنها تستلها من تحت ربوة من التراب، وببطء فركت قطرة الماء المسترخية على جفنها.. لتفتح عينها قليلا وتغمضها.. مررت يدها على وجهها ومقدم رأسها.. أحست ببل فيها ففتحت عينيها لتعرف ما هو.. رأت زينب تنحني عليها باكية.. أجالت نظراتها في النساء المحدقات بها، مرت بها على أمها الباكية عند رأسها وعادت إلى زينب، قالت لها بصوت مبحوح:
- زيب، متى جئت؟
انفجرت زينب بالبكاء، وهوت لتحتضنها وهي تشهق.. أمسكتها النساء، لكي لا تفقد جميلة الوعي ثانية.. مدت يدها إليها فقربت زينب جبهتها حتى تناولتها.. مسحت بأصبعها ذرات من الكحل جرفتها الدموع على خدها، وقالت لها:
- لا تبك حتى لا تذهب زينتك.. أريدك أن تظلي جميلة كما أنت الآن.. أريد القاسم أن يعرف أنه تزوج أجمل عروس، وظفر بأطيب قلب.
سقطت على وجهها دمعة فنظرت فإذا هي من أمها، فقالت لها:
- لا تجزعي يا أمي.. أنا بخير ولا أشكو شيئا.
تحركت لتجلس فساعدتها النساء واستقبلتها زينب بالأحضان.